للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خطبة المسجد الحرام - ٢٤ صفر ١٤٣٢ - أهمية التخصص في تولي العمل- الشيخ سعود الشريم

الخطبة الأولى

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أعطى كل شي خلقه ثم هدى، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدً عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه والتابعين ومن سار على طريقهم واتبع هداهم إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد

فأوصيكم - أيها الناس- بتقوى الله والاستقامة على دينة، والدعوة إليه، والعمل به، فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه، واشكروا له، إليه ترجعون.

أيها الناس ..

إنه لانجاح لأي مجتمع مسلم دون تكامل، ولا تكامل دون معرفة كل فرد ماله وما عليه، وما هو من شأنه وما هو ليس من شأنه، وما هو مهم وما هو أهم، كما أنه لا استقرار ولا توازن للمجتمع دون إدراك لقائمة الأولويات ومعرفة ما يجب تحصيله من المصالح، وما يجب درءه من المفاسد، وما هو من الاختصاص وما ليس من الاختصاص. ذلك كله كي لا تختلط الأمور، ولا تتبعثر المصالح، ولئلا يصبح الناس فوضى لا سراةَ لهم.

وإن مما يعنينا من هذا كله ما يسمى بمبدأ "التخصص"، نعم التخصص الذي يعني اقتصار عضواً أو فردً أو جماعةً على فنٍ معين، أو عملٍ معين، وهو من الضرورات للمجتمع المتكامل، حيث يفرق الأعمال والعلوم بين الأفراد، كل فرد بما وهبه الله من قدرة ومعرفة في مجاله، أو بما أوكل إليه من مصالح المسلمين.

وهو بلا شك، يزيد في الاتقان ويؤدي إلى المهارة والجودة والاكتشاف والاختراع، ويحد من الفوضى بتنازع الاختصاص أو تدافعه، لاسيما إذا كان تنازع تضاد لا تنازع تنوع.

ومن تتبع أمثلة من الخلاف والفرقة والتنازع عبر التاريخ والاخفاق في مصالح المسلمين لوجد لإهمال جانب التخصص دوراً كبيراً في هذا الإذكاء، وبما أن الشريعة الاسلامية هي شريعة التكامل التي لا يعتريها النقص بوجه من الوجوه، فإن الباري -جل شأنه- ذكر في كتابه المبين ما يؤكد هذا الأمر تأكيد لا مجال للتنازع فيه

فقد قال سبحانه وتعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)

فقد دلت هذه الآية على أنه لا يمكن أن يكون كل الناس علماء، ولا أن يكون كل الناس حكّاماً ولا أن يكون كلهم مجاهدين، ولا أن يكونوا كلهم فلاحين أو دارسين أو غير ذلك.

وقد جاء في آية أخرى ما يدل على هذا المعنى وعلى أنه يجب أن يُرد الاختصاص إلى أهله وأن لا يفتات عليهم فيه، فقد قال سبحانه: (لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)

ولم يقف التوجيه للتخصص عند هذا الحد -عباد الله-، بل إنه قد جاء في السنة ما يدل على أن الاختصاص ينبغي أن يرد إلى أهله وأن لا يتطفل عليهم فيه، أو ينتزع منهم، وليس ذلك مختصا بأمور الدين فحسب، بل حتى في أمور الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في مسئلة توبير النخل (أنتم أعلم بأمور دنياكم)

وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في حق الطب (من تتطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)، فهاهو صلى الله عليه وسلم هنا يعيد الاختصاص إلى أهله وهو في الوقت نفسه يحذر من التطفل عليه بل إنه يتوعد المتطفلين عليه بالمسائلة والمحاسبة، فكيف بالمقصرين فيه من ذويه وأهله.

وأن تعجبوا عباد الله، فعجب فعل بعض المتطفلين على جميع التخصصات والذين نصبوا أنفسهم من ذوي الإحاطة بجميع الأمور، دينية كانت أو دنيوية، وجعلوا من أنفسهم حكاما ومفتين وأطباء واقتصاديين ومفكرين، وهم لا يعدون كونهم كتبة على ورق مبتذل، لارائد لهم فيه إلا التطفل وحب الشهرة، وطلب الرياسة والثناء بالجرأة، والإقتدار الزائف بإجادة كل فن وإحسان كل طرح زعموا، ولو أدى ذلك إلى إحداث جذام في حال تطبب الزكام، وفقأ العين في حال إزالة القذى، حتى أصبح عامة الناس لا يميزون في بعض الأحايين بين الطبيب والعالم والصحفي والمفكر والداعي، وبالأخص فيما يتعلق بأمور الفتوى والسياسة الشرعية ومصالح المسلمين العامة، ناسين أو جاهلين تربية النبي صلى الله عليه وسلم أمته على احترام التخصص وعدم اهماله أو التطفل عليه، فقد أمر صلوات الله وسلامه عليه عبدالله بن زيد -صاحب رؤيا الأذان- أن يلقي ذلك على بلال لأنه أندى منه صوتاً.

كما أنه صلوات الله وسلامه عليه قد روي عنه أنه قال (أفرضكم زيد) أي أعلمكم بالفرائض وقال صلوات الله وسلامة عليه (أقرأكم أبُي)، أي أحسنكم قراءة للقرآن، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أشاد بحسان بن ثابت على أنه أشعر الصحابة، وعلى أن علي أقرأهم، ومعاذً أعلمهم بالحلال والحرام، وعلى أن علي أقضاهم ومعاذاً أعلمهم بالحلال والحرام وأن خالد بن الوليد سيف الله المسلول، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله) .. الحديث.

والنصوص في ذلك من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى في مثل هذه اللحظات، وقد ذكر أهل العلم أن القضاة لابد لهم من أعوان في أمور قد تكون خارج اختصاصهم كالطبيب والمهندس والمترجم وغير ذلك، كلاً في تخصصه ومجاله الذي يتقنه. وأنه متى عَسَفَ المرء نفسه إلى غير تخصصها أو طبيعتها التي تحسنها فإن العاقبة هي الزلل لا محالة، كما قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (تحف المولود) "لا تعسف الشاب بعد أن يكبر عن ما ينافي طبعه أي تخصصه وميوله التي يجيدها ويتقنها لأنه سيقصر فيها أكثر مما يحسن".

وبعد يا رعاكم الله ..

فإن تطفل المرء على تخصص ليس منه ولا هو من بابته في ورد ولا صدر، لهوا عين الافتيات والتدخل فيما لا يعني، وكفى بهذا سوءً ووقوعاً في مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (من حسن اسلام المرء تركه ما لايعنيه).

الا أنه من المؤسف - عباد الله - أن نشاهد في عصر المعرفة والتقدم المعلوماتي ما يسيء إلى آدابها ويعكر صفو موردها حيث كثر الخلط واللغط وضعف مفهوم التخصص في أوسط الناس وأصبح يشاهد في العيان التطفل على الحاكم والتطفل على العالم والتطفل على المصلح والتطفل على الناصح كلاً يلتّ ويعجن، ويهرف بما لايعرف، دون هيبة للمرجعية ولا إحترام للتخصص، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (أعطوا كل ذي حق حقة).

وكم من عبقريةً - عباد الله - مرغها في الوحل تنازع دني في الاختصاص، فلربما رأى الدنيء أن كل جمال تحدي له، والغبي يرى في الذكاء عدواناً عليه، والفاشل يرى في النجاح ازراءً به.

الا فاتقوا الله عباد الله ..

وحذار حذار من الفوضى، فحذاري يا طالب العلم أن تتحدث فيما ليس عندك من الله برهان، وحذاري أيها الطبيب أن تتطبب فيما لا تعرف، وحذار أيها الكاتب أن تتطفل على موائد العلماء والمصالح العامة وأن تنصب نفسك وصياً في الطقطقة عليهم ونهش لحومهم فتتنطع في القذاة وتتعامى عن الورم.

الا فليعرف كل امريء قدره، وليتقي الله فيما يأخذ وما يذر، فرحم الله امرءً عرفَ قدرَ نفسه، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، أو علم أو رأى، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمىَ يوشك أن يرتع فيه.

ولقد أحسن من قال

إذا كنت ذا لب فحاذر تطفلا

ولا تقف شيئا غير ما أنت عارفَ

لكي لا ترى من يزدريك زلة فللناس فيما تتدعيه معارف

(ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)

الا رحم الله امرئً سمعَ فاعتبر، وأدرك فانتهى، وعلم العاقبة فتفطن، وحذر الآخرة ورجا رحمة ربه، واستمع القول فاتبع أحسنه، والله جل وعلا يقول (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، فاستغفروا الله إنه كان غفارا.

الخطبة الثانية:

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ..

اما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن مراعاة التخصص من أهمّ مقومات النجاح والتوازن والاستقرار، حيث لا يبغي بعض على بعض، ولا يموج بعض في بعض، فنقدر للحاكم حكمه، وللفقيه فقهه، وللطبيب طِبّه، وللإقتصادي اقتصاده، ويجمعنا في ذلكم كله مظلة الشريعة الإسلامية، التي تحض على التناصح والتواصي، اذ لا يعني التخصص ألا يقصر أحد في تخصصه أو لا يعتريه النقص بوجه من الوجوه .. كلا ... فالكمال لله والعصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم، غير أن من الغلط أن يقصر المتخصص فلا يحاسب على تقصيره، لا سيما إذا كان يتعلق بمصالح المسلمين العامة دينيةً كانت او دنيوية ومنها ما رأيناه قبل يومين لاخواننا المتضررين من السيول الجارفة والذين اضحوا ضحية المقصرين والمستهترين بالامانه التي اوكلها اليهم ولي الامر وحذرهم من التقصير فيها اكثر من مره وبين ان المقصر سيحاسب كما ان من الغلط تتدافع التخصص لانه خذلان واسلام الى الفوضى فاذا تنصل كل احد عن مسؤليته فمن المسؤل اذا

ولله ما احسن مالك بن دينار وقد كان يعض في درسه والناس يبكون من حوله فالتفت الى مصحفه فلم يجده فقال لمن حوله ويحكم كلكم يبكي فمن سرق المصحف؟ فمن سرق المصحف؟ ويحكم كلكم يبكي فمن سرق المصحف

وان من الغلط ايضا تنازع التخصص لانه تطفل وافتيات ودخول فيما لا يعني ونشر لفوضى النقد دون محاسبة او رقابة كما اننا ينبغي ان نعي جميعا ان مردنا عند التنازع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهما المهيمنان علينا وهما اللذان امرنا بالرجوع اليهما عند الخلاف ولا يعني التسليم بالتخصص ايضا ولو كان دنيويا ان لا يتدخل اهل العلم والفقه بالنصح فيه اذا كان لتدخلهم برهان من كتاب الله وسنة رسوله فهذا النبي وهو لا يقول الشعر، لم يصده ذلك عن بيان الحق وعدم تأخيره عن وقت الحاجة حيث قال صلوات الله وسلامه عليه (اصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد الا كل شي ما خلا الله) باطل رواه مسلم

وقد اغفل النبي عجز البيت الذي يقول فيه لبيد "وكل نعيم لا محالة زائل" لأن نعيم الجنة لا يزول ولا يحول وهذا يدل على عدم موافقة النبي لعجز البيت بدلالة الإيماء والتنبيه. ثم اعلموا يا رعاكم الله ان زج المسلم فيما لا يحسن وما ليس من تخصصه لهو مضنة حدوث الزلل واستهداف الناس عليه والوقوع في هوة الافتيات.

ورحم الله ابا المصفر السمعاني حيث رد على احدهم في كتابه قواطع الادلة قائلا:

فكان الاولى به عفي الله عنه ان يترك الخوض في هذا الفن ويحيله على أهله فان من خاض فيما ليس من شأنه فأقل مايصيبه افتضاحه عند اهله ورحم الله الحافظ ابن حجر حيث قال: "ومن تكلم في غير فنه اتى بالعجائب"، هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية وازكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة فقد أمركم الله بأمرٍ بدء فيه بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه وأيه بكم ايها المؤمنون فقال جل وعلا: (يا ايها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسلميا)

اللهم صلي وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الانور والجبين الازهر وارض اللهم عن خلفائه الاربعه ابوبكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر صحابة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا ارحم الراحمين

اللهم اعز الاسلام والمسلمين

اللهم اعز الاسلام والمسلمين

اللهم اعز الاسلام والمسلمين

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين

اللهم فرج هم المهومين

ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا ارحم الراحمين

اللهم اصلح احوال المسلمين في كل مكان

اللهم اجمع بين كلمتهم وخالف كلمة اعدائهم ياحي يا قيوم يا ذا الجلال والاكرام

اللهم امنا في اوطاننا واصلح ائمتنا وولاة امورنا واجعل ولايتنا فيما خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين

اللهم وفق ولي امرنا لما تحبه وترضاه من الاقوال والاعمال ياحي يا قيوم

اللهم اصلح بطانته يا ذا الجلال والاكرام

اللهم البسه الصحة والعافية واجعلهما عونا له على طاعتك يا حي يا قيوم

ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار

سبحان ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

<<  <   >  >>