للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة)]

الحمد لله رب العالمين، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً هي له كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، تنزه عن الزوجة والولد، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، وأشهد أن نبينا ورسولنا سيدنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.

ثم أما بعد: فنعيش مع ختام سورة القيامة، من قول الله ربنا سبحانه: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ * كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:٢٠ - ٤٠] سبحانك فبلى، روى أبو داود في سننه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: سبحانك فبلى)، وفي سورة التين أيضاً إذا قرأ قول الله سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:٨] قال: (بلى وأنا على ذلك من الشاهدين).

وقوله: {كَلَّا} [القيامة:٢٠]، للزجر والردع، وهذا من سمت القرآن المكي، وحرف (كلا) لا يأتي إلا في القرآن المكي في الغالب.

قال عز وجل: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:٢٠ - ٢١] قال الحافظ ابن كثير: ما دفع هؤلاء لتكذيبهم بالبعث ولإنكارهم للقيامة ولتجرئهم على المعاصي إلا أنهم كذبوا بالآخرة، وأحبوا العاجلة، والعاجلة هي الدنيا.

فقوله: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ) الحب من أعمال القلوب، فهناك قلب يتعلق بالدنيا فيحبها، وهناك قلب يحب الآخرة فيعمل لها، ولذلك جسد النبي صلى الله عليه وسلم مرض الأمة التي تحياه اليوم في كلمة واحدة في حديثه: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)، والناظر في حياة الأمة يجد أن الجميع ينهش في القصعة في أعراضها، وفي حرماتها، وفي مقدساتها، وفي ثوابتها الشرعية، وفي أمور مستقرة لا يختلف عليها أحد من الناس، فهل تصدق أن امرأة تخرج علينا وتقول: إن الإسلام قد ظلم المرأة حينما أعطاها نصف نصيب الرجل في الميراث؟ وتقول: لابد من إعادة النظر في هذه الآية، ومساواة المرأة بالرجل في الميراث، وتقول: إن فريضة الحج من مظاهر الوثنية وعبادة الأصنام، وإن تقبيل الحجر الأسود لا يقبله عقل! وهذه أمور إن دلت على شيء فإنما تدل على الخبل الفكري، ويسمون هذا: حرية إبداع، وحرية فكر، وهي في الثوابت الشرعية الثابتة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى

<<  <  ج: ص:  >  >>