للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم)

قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح:١ - ٧]، أي: وضعوا الثياب على الرءوس.

{وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:٧ - ١٤].

جاء نوح إلى قومه فقال لهم: يا قوم إني لكم نذير أنذركم عذاب ربكم سبحانه، وأحذركم من عذابه في الدنيا والآخرة، وهذا يشير إلى أن دعوة الأنبياء تقوم على الترهيب والترغيب، فرهبهم وخوفهم من عذاب الله.

قال تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [نوح:٣]، وهذه وظيفة الأنبياء جميعاً، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٢٥]، فالكل يشترك في الدعوة إلى توحيد الله وإلى عبادة الله، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل:٣٦]، لماذا؟ {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦]، فكل رسول يأتي إلى قومه يقول لهم: اعبدوا الله العبادة بمعناها الشامل، أي: مع كمال الذل وكمال الحب، كما يقول شيخ الإسلام، فالذي يعبد الله يحب الله، ويذل نفسه لله، ويستقيم على أمره.

والعبادة أنواع: قولية، وبدنية، وقلبية، ومالية، وكلها يصرفها المسلم لله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:١٦٢]، أي: ذبحي، {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} [الأنعام:١٦٢]، لمن؟ {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣].

ولذلك لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن قبل موته بعام واحد، قال له: (يا معاذ إنك قادم على أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: لا إله إلا الله، فإن هم أجابوك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، وإياك ودعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، فبيَّن له منهج الدعوة إلى الله، منهج الدعوة إلى التوحيد بمعناه الشامل، ولذلك أي دعوة تبدأ بدون التوحيد تتخبط يميناً ويساراً، وقد مكث نوح في قومه يدعوهم إلى التوحيد الشامل فترة من الزمن، بينها الله في قوله: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:١٤]، فما آمن معه إلا القليل، قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:٤٠]، والقليل هذا في كل سنة اثنان فقط، إعراض واستكبار وعناد، وهذا يعلمنا أمراً مهماً، ألا وهو: أننا لا نملك القلوب وإنما الذي يملك القلوب هو علام الغيوب، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:٢٧٢].

{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:٤٨]، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:٢١ - ٢٢]، فوظيفتنا أن ندعو فقط.

{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:١٧].

فالذي هداه الله يفتح قلبه للإيمان، ولذلك في حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عمه أبي ط

<<  <  ج: ص:  >  >>