للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أهمية تهذيب سلوك المسلم]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ثم أما بعد: هناك أمور كثيرة يجب أن نبينها قبل أن نشرع في درس صحيح البخاري في باب الصلاة على الغائب وما بعده: الأمر الأول: أن العبادات -الصلاة والصيام والزكاة والحج- شرعت لتهذيب سلوك المسلم، فالمسلم ينبغي أن يتحلى بالسلوك الحسن ويعرف به، في أسرته، في معاملته لزوجته، في طريقه العام، في مشيته، حتى يعرف بسلوكه ويقال: هذا مسلم من سلوكه، وبعضهم تجد أن سمته الخارجي التزامي، وسمت السلوك لا يترجم عن هذا الالتزام بحال، لذلك أحببت أن أذكر بهذا لأهميته؛ فإن السلوك الحسن مطلوب حتى مع العصاة، وانظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يعامل العصاة، قال عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩]، وبعض الإخوة حينما يرون امرأة متبرجة تجد أحدهم ينظر إليها وقد قطب جبينه، ثم يرفع صوته ويقول: لعنة الله عليك يا فاسقة.

فيزرع في قلبها الحقد والحسد والضغينة، ولا يتذكر قول الله عز وجل: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:٩٤]، فمن منا ولد من بطن أمه على الالتزام؟ لا أحد.

فينبغي علينا أن ننظر إلى العصاة نظرة رحمة ونظرة رفق، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل العصاة برفق ورحمة، فهذا الرجل الأعرابي الذي دخل المسجد وتبول فيه عامله برفق، وكم أكرر: لو أن رجلاً الآن دخل إلى المسجد وتبول فيه ماذا سنصنع به؟ سننهال عليه بالأحذية والخشب وكل ما نجد، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقطعوا عليه بوله) ثم قال: (أريقوا عليها سجلاً من ماء)، ففي هذه القصة يعلمنا الحبيب الحكمة وعدم الغلظة في التعامل مع الناس.

ثم أيضاً من الأمور الهامة أنني قد أكون ملتزماً وزوجتي غير ملتزمة أو زوجتي التزمت وأنا غير ملتزم، يعني: عندي تقصير في بعض الواجبات الشرعية، فينبغي أن يحرص بعضنا على بعض، فبعد التزامي وزوجتي لا تزال على أول عهدها لا أقول: أنت إلى جهنم! أو اخرجي يا فاسقة! أو نحو ذلك؛ إذ لا يصح التعامل مع الزوجة بهذا الأسلوب، وإنما آخذ بيدها إلى الطاعة، وأحببها في الطاعة.

وهكذا قد تجد أختاً التزمت وكانت قبل الالتزام تتجمل لزوجها وتبتسم له وتحسن التبعل في حال التبرج، وبعد أن منَّ الله عليها بالالتزام إذا كلمها ترد عليه: أنت لا تتكلم معي؛ لأنك مبتدع ضال! ونحو ذلك، فليس معنى أن الزوج إذا كان في معصية ألا تحسني معاشرته وألا تحسني معاملته؛ فالإسلام يعلمنا السلوك، ولذلك تأتيني شكاوى كثيرة بهذا الشأن.

فأقول: ينبغي على المسلم إذا سئل عنه جاره أن يقول: نعم الجار، يعودني إذا مرضت، ويعطيني إذا احتجت ويقف بجواري إذا كنت في أزمة، ويلقي علي السلام في ذهابه وإيابه، أما أن يمر وهو مكشر ويرجع وهو مكشر ويعامل الناس بهذه الغلظة فهذه ليست دعوة، بل هي تنفير للناس، ففي البخاري: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! لا أكاد أدرك صلاة الجماعة في الفجر؛ لأن فلاناً يطول بنا)، يعني: يقرأ طويلاً والرجل لا يتحمل هذه الإطالة فيتخلف عن الجماعة، قال: (فغضب النبي صلى الله عليه وسلم واحمر وجهه، وقال: إن منكم لمنفرين)، وصلاتنا الآن وسط في كل مساجدنا، وإنما الإطالة أن الرجل قرأ بالبقرة وآل عمران وأطال كثيراً، فلا يفهم أحد أن الإطالة على مفهومه هو.

وحزب المنفرين منتشر، ولذلك أريد أن نبتسم في وجه الناس جميعاً، وأن نلقي السلام، وأن نساعدهم في مشاكلهم، فالالتزام ليس معناه أن تكون في عزلة وتغلق على نفسك، فأصحاب السجن قالوا ليوسف عليه السلام: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:٣٦]، فكيف تعرف أصحابه في السجن على سلوكه، وكيف شهدوا له أنه محسن؟ من المؤكد أنه تحبب إليهم وحببهم في دعوته، فقد كان يخاطبهم: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:٣٩]، يعني: يا أصحابي في السجن! فانظروا إلى لغته كيف يتحبب إليهم بهذا اللفظ ثم يدعوهم إلى الله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:٣٩ - ٤٠] وبعد أن بين لهم التوحيد قال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ} [يوسف:٤١] ولم يحدد الأول والثاني باسمه، حتى يراعي شعور ساقي الملك، مع أن الملك هو الذي وضعه في السجن، فيا لها من دعوة! ويا ليتنا نتعلم الرأفة والرحمة والحكمة في الدعوة إلى الله

<<  <  ج: ص:  >  >>