للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التوبة النصوح]

المطهر الأول: التوبة النصوح، (والتوبة تجب ما قبلها)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، ولابد أن نعلم أن كل المعاصي يغفرها الله حتى الشرك ما دام العبد في الدنيا، كما قال الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣].

وأما في الآخرة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨].

فيا أيها العبد العاصي! إنك في أيام بركة, فعد إلى ربك عز وجل، وطهر نفسك من دنس الذنوب والمعاصي قبل أن يأتيك ملك الموت فتنادي بأعلى صوتك: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠]، تقول: رب! أعدني إلى الدنيا لأعمل صالحاً ولأصلي الجماعات ولأقرأ القرآن ولأذكرك ولآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٠٠].

فعد إلى ربك، فالنفس قد يخرج ولا يعود، وقد يعود ولا يخرج، {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:٨٤].

وقد اشترط العلماء للتوبة شروطاً، وهي: الشرط الأول: أن يندم العاصي على معصيته.

الشرط الثاني: أن يقلع العاصي عن المعصية، فإن كنت مع أصدقاء سوء فاهجرهم، لأن {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٦٧].

وكل الصداقات الزائفة في الدنيا تنقلب إلى عداوات يوم القيامة، كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:١٦٦]، وقد كان هؤلاء الأتباع يهتفون في الدنيا بحياتهم ويقيمون لهم السرادق ويهتفون بحياتهم، وأما يوم القيامة فقد {تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة:١٦٦ - ١٦٧].

وأول من يتبرأ منهم الشيطان الذي زين لهم المعاصي، وأضلهم عن ذكر ربهم، {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:٢٢].

وفي سورة (ق) يقول ربنا سبحانه: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:٢٧]، فقرينه الجني يقول: يا رب! أنا ما أطغيته، بل هو الذي ضل، فيقول الله لهما: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:٢٨ - ٢٩].

الشرط الثالث: العزم على عدم العودة، فالعزم من عمل القلوب, فلا تقل: تبت، وأنت مصر على العودة إلى المعصية، فهذا استهزاء.

الشرط الرابع: رد المظالم إلى أهلها إن كانت حقوقاً لآدميين.

فإن توفرت هذه الشروط الأربعة في التائب فإن الله عز وجل يبدل سيئاته حسنات، ولا ينبغي علينا أن نذكر العاصي بمعصيته، أو نفضحه بذنبه، فالمؤمن يستر وينصح، والمنافق يهتك ويفضح، ومن ثم يأمرنا ربنا عز وجل بالإعراض عن الزانية والزاني إن تابا قال تعالى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:١٦].

فالكلام عن أخبار الفواحش لا يجوز شرعاً؛ لأن فيه إشاعة الفاحشة وتشهيراً بالعاصي على الملأ، وإنما ينبغي الأخذ بيد العاصي وستره، بحيث إذا عاد إلى ربه لا نذكره بمعصيته، ومن منا لم يعص الله؟ وما منا إلا من قد ستره الله ولم يفضحه، (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، وفي الحديث الصحيح أن رجلاً قد قتل تسعاً وتسعين نفساً، فهو سفاك، سفاح، ومتخصص في إهدار الدماء، فأراد أن يتوب إلى الله، فسأل عن أعلم أهل الأرض، وحسن السؤال نصف العلم، (قال: دلوني على أعلم أهل الأرض)، ولم يقل: أعبد وإنما قال: أعلم، (فدلوه على راهب)، ولكن الراهب ما كان عالماً، فأتاه فقال: (هل لي توبة؟ قال له: لا، ليست لك توبة، فقتله فأتم به المائة).

فقتل مائة نفس، وربنا في القرآن ما توعد أحداً بوعيد كما توعد الذي قتل نفساً مؤ