للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مشروعية الدعاء في رمضان]

الحمد لله رب العالمين، الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الإنسان من سلالة من طين ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً هي له كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٤ - ١٦].

وأشهد أن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، ترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين والملأ الأعلى إلى يوم الدين.

ثم أما بعد.

أيها الإخوة الكرام الأحباب! لقاؤنا اليوم يحمل عنوان: (رمضان شهر الدعاء)، وقد تحدثنا في اللقاء السابق أن رمضان شهر القرآن، وهو أيضاً شهر الدعاء، ودليلنا لذلك أن آية الدعاء جاءت بين آيات الصيام، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:١٨٦]، وهذه الآية جاءت في وسط آيات الصيام؛ لتبين حقيقة وهي: أن العبد في هذا الشهر الكريم ينبغي أن يلح في الدعاء على ربه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (للصائم عند فطره دعوة لا ترد) أي: أنها من الدعوات المستجابات.

وقال نبينا صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد بروايات مختلفة، فرواية البخاري: (إن الله سبحانه لم ينزل داءً إلا وأنزل له دواء) وهذه رواية البخاري.

أما رواية أحمد: (لكل داء دواء فإذا أصاب دواء الداء برئ بإذن الله).

ورواية أحمد في مسنده: (إن الله لم يضع داء إلا وأنزل له شفاء إلا الهرم) والهرم: كبر السن والشيخوخة، فليس لها دواء، فالله سبحانه وتعالى حينما أنزل الداء أنزل معه الدواء، فالجهل داء ولا شك في هذا، ودواء الجهل هو العلم وسؤال العلماء.

وفي الحديث الذي في سنن أبي داود أن رجلاً أصابه حجر في رأسه وقد أصابته الجنابة، فسأل بعض الصحابة: هل عليه من غسل؟ فقالوا: لا نرى لك إلا الغسل، فاغتسل فدخل الماء في رأسه فوقع ميتاً، فوصل ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، إنما دواء العي السؤال) فجعل الجهل داء، وجعل له دواء وهو سؤال أهل العلم، وربنا قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣].

والإمام البخاري بوب في صحيحه: (لا يتعلم العلم مستكبر ولا مستح)، فالذي يتكبر على طلب العلم لا يتعلم، وكذلك الذي يستحي من طلب العلم لا يتعلم.

والقرآن شفاء من كل داء حتى الأمراض الحسية؛ لأن (من) هنا ليست للتبعيض وإنما لبيان الجنس في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:٨٢].

يقول ابن القيم رحمه الله: مكثت في مكة تنتابني بعض الأمراض الجسدية، فكنت أستخدم الفاتحة في الرقية فأجد لها مفعولاً في شفائي لا يعلمه إلا الله.

وفي صحيح البخاري أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نزلوا على حي، وقد لُدغ سيده -أي: لدغه ثعبان- فطلبوا له الطب فلم يجدوا له سبيلاً، وعجز الطب عن علاجه، فجاءوا إلى ذلك الرهط من أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وسألوهم: هل عندكم من شيء لسيدنا؟ قالوا: نعم، إلا أننا أردنا منكم الضيافة فلم تفعلوا، لن نرقيه حتى تجعلوا لنا جُعلاً -أي: مقابلاً- ثم تقدم أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام إلى الرجل وأتى بمكان الجرح، وتفل عليه، ثم قرأ عليه فاتحة الكتاب، وما إن انتهى من قراءة الفاتحة إلا وقام الرجل صحيحاً معافى كأنه انفك من عقال بعير.

إذاً: الفاتحة لها تأثير مباشر على الأمراض العضوية وهذا الكلام ربما لا يفهمه أحد أو يقول: هذا كلام لا يمكن أن يصدق، لكن ابن القيم يقول: ولتأثر الدعاء على كل مكروه وبلاء شروطاً؛ لأن البلاء الذي ينزل بالعبد داء، والمكروه الذي ينزل به داء يحتاج إلى دواء، ودواء المكروه والبلاء هو الدعاء.

ورمضان هو شهر الدعاء.

والدعاء هو العبادة، كما قال ربنا سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَ