للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأدلة على دنو أجل النبي عليه الصلاة والسلام]

وقبل أن نسترسل في خطبة النبي عليه الصلاة والسلام، ونقف عند بنودها نبينها ونوضحها ونستنبط منها العبر والعظات، أقول: بعد أن تم إبلاغ الرسالة، وبناء مجتمع إسلامي في المدينة المباركة، استشعر الحبيب عليه الصلاة والسلام دنو أجله، ودليلنا ما يلي: أولاً: أنه لما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن في السنة العاشرة من الهجرة، أي: قبل موته بعام صلى الله عليه وسلم أو بأشهر- قال له: (يا معاذ! لعلك لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك تمر بمسجدي أو بقبري، فبكى معاذ وقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله!).

ثانياً: كان جبريل يدارسه القرآن في كل سنة في رمضان مرة، وفي العام الذي مات فيه النبي عليه الصلاة والسلام دارسه القرآن مرتين.

ثالثاً: قال للناس وهو يؤدي المناسك: (خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).

رابعاً: أنزل الله عليه بعد أن أتم خطبة عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣]، فسمع عمر الآيات، فأخذ يبكي، فتعجب الصحابة من بكاء عمر، فقال: يا قوم! وهل بعد الكمال إلا النقصان؟ أي: أن الله رب العالمين يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ} [المائدة:٣]، فلا بد بعد الكمال من نقصان، وكان النقصان الذي توقعه عمر هو موت الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.

خامساً: في أيام التشريق أنزل الله عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:١ - ٣]، فكان ابن عباس يقول: في هذه السورة نعي من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، واستنبط هذا المعنى من قول الله: {وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:٣]؛ لأن الاستغفار هو ختام كل شيء، فكأن الله عز وجل يأمر النبي عليه الصلاة والسلام في ختام حياته أن يختم حياته باستغفار الله.

وفي العام العاشر من الهجرة أذن في الناس: أن النبي صلى الله عليه وسلم حاج إلى بيت الله عز وجل، فجاء الناس من كل فج عميق، ليتأسوا بالحبيب عليه الصلاة والسلام، ويتعلموا منه المناسك، ويقفوا على آخر الأمور الشرعية العبادية؛ لأن الحج هو آخر ما فرض من العبادات، فقد فرض في العام (٩هـ‍ـ) على القول الراجح.

خرج النبي عليه الصلاة والسلام لأربع ليال بقين من ذي القعدة كما يرجح ذلك ابن حجر في الفتح، ثم ذهب إلى ذي الحليفة وبات فيها، وقبل صلاة الظهر اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم ولبس ملابس الإحرام، تقول عائشة: ووضعت المسك على رأس ولحية النبي صلى الله عليه وسلم ومفارقه، حتى إن رائحة المسك كانت تفوح من لحيته وشعره عليه الصلاة والسلام.

ثم صلى الظهر ولبى بعمرة وحج؛ لأن أرجح الأقوال أنه حج قارناً عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ساق الهدي من الحل إلى الحرم، ولذلك قال لأصحابه بعد أن أدى العمرة: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة)، فأمر من لم يسق الهدي بالتحلل عليه الصلاة والسلام، ثم أهل بعمرة وحج؛ لأنه حج قارناً، ودخل مكة بعد ليال ثمانية، أي: أنه قطع الطريق في ثمان ليال صلى الله عليه وسلم، وفي يوم أربعة من ذي الحجة دخل مكة -حتى نتعلم أنها رحلة جهاد- ثم دخل من باب بني شيبة إلى الحرم المكي، وطاف بالكعبة وسعى بين الصفا والمروة، ولم يتحلل؛ لأنه ساق الهدي، وأمر أصحابه أن يتحلل من لم يسق الهدي.

ثم ظل على إحرامه صلى الله عليه وسلم حتى جاء اليوم الثامن من ذي الحجة المعروف بيوم التروية، وذهب إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، فصلى الرباعية قصراً دون جمع.

وفي فجر اليوم التاسع يوم عرفة -وهو خير يوم طلعت فيه الشمس- حين أشرقت الشمس ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى عرفة، وأمر بخيمته فضربت بنمرة، ثم بعد الزوال قام يخطب في الناس عليه الصلاة والسلام، وكان مما قال عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا إن كل أمر من أمور الجاهلية تحت قدمي موضوع، ألا إن كل دم من دماء الجاهلية موضوع، وأول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث، ألا وإن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي، وإن أول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب، اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التو