للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الجمع بين اختيار العبد وما كتب عليه]

كيف يمكن لنا أن نجمع بين أن الإنسان قادر على أن يفعل ما يريد ويختار ما يشاء، وبين أن الله عز وجل عالم بأعماله وقد كتبها عليه؟ يعني: أنا وأنت الآن مكتوب على كل واحد منا هل هو شقي أم سعيد قبل أن تخلق السماوات والأرض، ومكتوب أن فلان بن فلان سيعمل كذا وكذا، ويموت على كذا، ويكون من أهل الجنة أو من أهل النار.

فكيف نجمع بين الاختيار وبين ما كتبه الله عز وجل؟ نقول: ليس هناك أي تعارض في هذا الأمر، فما كتبه الله عز وجل ناتج عن علمه؛ فعلمه ليس كعلمي وعلمك، فأنت لا تعلم ماذا سأعمل غداً، لكن الله يعلم ذلك، فهل الله عز وجل عندما علم أحوال العباد وماذا سيختارون فكتب ذلك هل يعني هذا أنه جبر أحداً؟ لا.

لم يجبر أحداً سبحانه وتعالى، لكنه علم ماذا سيختار.

نحن بإمكاننا أن نصلي الفجر ثم نرجع إلى بيوتنا مرة أخرى، ولن تجد ملائكة تقف بوجهك على الأبواب، تقول لك: لا تدخل لأن الله كتب عليك أنك من أهل النار.

لكن هذا الاختيار الذي أنت ستفعله بالصلاة أو بترك الصلاة علمه الله قبل ذلك فكتبه؛ وعندما كتب ذلك هل ألزمك أو جبرك على ذلك وأنت لا تريد؟ لا.

فالإنسان الذي يذهب إلى الزنا قادر على أن يبتعد عنه، وقادر على أن يذهب إليه، فبعض الناس يقول: إذا زنيت أليس الله قد كتبها علي قبل ذلك؟ نقول: إذا زنيت وانتهى الموضوع صح قولك، ويكون كتبها الله عليك قبل ذلك، قال: إذاً جبرني؟ كيف جبرك؟! بل أنت الذي اخترت هذا الأمر، لكن علمه القديم سبحانه وتعالى والواسع يشمل ما ستفعله، وما ستموت عليه، بل يشمل ما هو أوسع من ذلك؛ لأن علمه شامل لاختيارات الناس، وهو الذي كتبه في اللوح المحفوظ، فما كتبه في اللوح المحفوظ ليس معناه أن العبد يريد خلاف هذا الشيء، وكتب عليه هذا الأمر جبراً له، فنحن نعرف من واقعنا وسلوكنا وحياتنا أنه ليس هناك أحد يمنعك عن الطاعة إذا أعجبتك؛ فالأنبياء مثلاً إذا أعجبتنا تصرفاتهم نستطيع أن نقتدي بهم.

إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه تكن مثلما يعجبك.

فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك إذا جئت إلى الأعمال الصالحة هل ستجد حجاباً يمنعونك منها؟ لن تجد، وكذلك إذا أردت الفساد والانحراف والعياذ بالله.

ولهذا يقول الإمام الشافعي رحمه الله: (ناظروا القدرية بالعلم، فإن أجابوا خصموا، وإن أنكروا كفروا).

القدرية لم يفهموا موضوع علم الله عز وجل الشامل، فأنكروا الكتابة، وقالوا: ليس هناك قدر، والأمر أنف، وليس هناك شيء مكتوب، وهذا غير صحيح؛ لأنهم أولاً لا يؤمنون بالنصوص، وهذا في حد ذاته قدح عظيم جداً؛ لأن النصوص الشرعية دلت على الكتابة، وعلى غير هذه الأمور.

وثانياً: أنهم لم يدركوا كيفية الجمع بين اختيار الإنسان الذي هو واقع ويشعر به الإنسان، وبين الأخبار الشرعية بأن الله كتب هذه الأشياء.

لذا قال الشافعي رحمه الله: (ناظروا القدرية بالعلم) يعني: هؤلاء الذين أنكروا القدر ناقشوهم بصفة العلم، قولوا لهم: هل تؤمنون بعلم الله عز وجل الشامل؟ فإن قالوا: نعم نؤمن بعلم الله الشامل (خصموا)؛ لأن الكتابة فرع عن علمه الشامل، أي: كيف تنكر كتابته وتثبت علمه فتجمع بين المتناقضات؟ قال: (وإن أنكروا كفروا) يعني: إذا أنكروا صفة العلم وقعوا في الكفر، وقد أجمع العلماء على أن من أنكر أن الله عز وجل عالم فهو كافر؛ لأنه أنكر صفة من صفات الله عز وجل الأساسية التي يؤمن بها كل الناس، واتهم الله بالجهل، والعياذ بالله! ولهذا كان السلف يكفرون أوائل القدرية الذين قالوا: إن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، ولا يعلم أفعال العباد إلا بعد أن تقع، لكن هذه الطائفة انقرضت، والمتأخرون منهم أثبتوا صفة العلم ونفوا الكتابة؛ لأنهم ظنوا أن الكتابة فيها إلزام للخلق بما لا يريدون، وهذا فهم فاسد، فإن الكتابة فرع عن العلم، وليس فيها إلزام للإنسان إلا بما يختاره، فإذا اختاره فهو نتيجة ما كتبه الله عز وجل عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>