للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الاحتجاج بالقدر]

قصة احتجاج آدم وموسى، وقوله له: (خيبتنا وأخرجتنا من الجنة) يقول: نحن كنا في الأصل في الجنة، لو أنك بقيت في الجنة لبقيت ذريتك، فكأنه ينتقد آدم بسبب المعصية التي حصلت منه.

فرد عليه آدم وذكر له أن الله عز وجل أعطاه التوراة، وخطها له بيمينه، قال: (ألم تقرأ فيها أن الله كتب علي ذلك قبل أن يخلقني بخمسين ألف سنة).

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى) يعني: أن آدم غلب موسى؛ لأن آدم بين لموسى أن هذا أمر مقدر ومكتوب عليه قبل أن يخلق، ففيه إثبات القدر والكتابة، وبين أن له عذره في ذلك، وهو يحتج بالقدر هنا على المصائب، وهذه قاعدة عند أهل السنة، أن الاحتجاج بالقدر يكون على المصائب لا على المعائب.

والضابط في هذا هو توقيت الاحتجاج، فإذا كان الاحتجاج على المعصية قبل فعلها فهذا احتجاج بالقدر على المعائب لا يجوز.

أما إذا وقعت منه ثم ندم وتاب فإنها تعتبر بالنسبة له مصيبة؛ لأنها صارت تاريخاً.

مثلاً: إنسان هذه الليلة حصل منه أنه سب، والسب معصية، وقبل أن يسب بين لنا أنه يريد أن يسب، فقلنا له: اتق الله عز وجل، فقال: هذا مكتوب علي، نقول له: كيف عرفت أنه مكتوب عليك.

هذا الاحتجاج احتجاج فاسد، وليس احتجاجاً بالقدر؛ لأنك لم تفعل بعد ولأنه ادعى أنه مكتوب عليه، وهذا ادعاء لشيء لا يعرفه! لكن لو فرضنا أن إنساناً لم يحتج بالقدر، فحصل أن سب، ثم بعد أن سب ندم، وبعد أن ندم احتج بالقدر، قال: هذا أمر قدره الله علي، فأنا أتوب إلى الله عز وجل منه.

فهذا احتجاج صحيح؛ لأنه يحتج على الماضي لا على المستقبل، ويحتج على أمر كان منه، ولا يحتج على أمر سيكون منه، واحتج على أمر ندم عليه، ولم يحتج على شيء سيفعله.

من أشد الشبه تهافتاً شبه الذين يحتجون بالقدر على الذنوب؛ لأنهم من أشد الناس تناقضاً، فهو لا يحتج بالقدر في الأمور الطبيعية، فإذا سرق ماله يطالب به، وإذا ضربه أحد يضاربه، وإذا أخذ حقه يشتكي.

ولهذا يروى أن عمر بن الخطاب جاءه سارق وقال: سرقت بقدر الله، قال: نقطع يدك بقدر الله، فكلها بقدر الله.

ويروى -كما ذكر ابن تيمية في العبودية- أن عبد القادر الجيلاني قال: انفتحت لي روزنة -يعني: باباً أو فتحة -أشاهد منها في القدر، فنحن نقاوم قدر الله بقدر الله، يعني: كما أن الله عز وجل قدر هذه المعاصي والذنوب، فنحن نقاومها بقدر الله عز وجل، وهو أن ندفعها عن أنفسنا، وهذا من الفقه، ومن العلم بالشرع.

ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العجز والكيس بقدر الله)، يعني: بعض الناس عاجز، تقول: ابحث عن عمل، يقول لك: لم أجد، هل بحثت؟ قال: لا.

ولو بحثت فلن أجد، كيف عرفت؟ قال: أتوقع ذلك، فهذا العجز بقدر الله.

وآخر فطن ذكي يبحث عن مصالحه، ويستطيع أن يصل إلى مصالحه، فهذا انتفع، والجميع بقدر الله سبحانه وتعالى، حتى العجز والكيس بقدر الله سبحانه وتعالى.

ولهذا ألف ابن القيم رحمه الله كتاباً كبيراً سماه: شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل.

وهناك رسالة لـ شيخ الإسلام رحمه الله عن الاحتجاج بالقدر يحسن الرجوع لها، وهناك كتب قديمة كتبها السلف الأولون فيما يتعلق بالقدر، فقد كتب عبد الله بن وهب كتاب القدر، وكتب الفريابي كتاب القدر، وأيضاً في كتب العقيدة المسندة، مثل شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ففيها أبواب مستقلة في القدر، وكذلك الشريعة للآجري، والإبانة لـ ابن بطة وغيرها من الكتب القديمة هذا ما يتعلق بهذه المسألة.

<<  <  ج: ص:  >  >>