للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[استدلال المفوضة بما ورد عن بعض السلف من نفي المعنى والرد عليه]

واستدلوا أيضاً بلفظ آخر عن السلف، وهو أن بعضهم نفى المعنى، وقالوا: إن هذا صريح في الموضوع، فروى ابن قدامة رحمه الله في كتابه ذم التأويل -وهو كتاب صغير مطبوع- عن الإمام أحمد أنه سئل عن حديث النزول، وعن حديث في الرؤية، وعن حديث في صفة القدم لله سبحانه وتعالى، فقال: نؤمن بها، ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى، قالوا: هذا صريح ينفي المعنى، ولهذا علق محمد زاهد الكوثري على ذلك، هذا الرجل المجترئ على أهل السنة، والذي ضعف زهاء ثلاثمائة عالم من علماء أهل الحديث في كتاب له سماه: تأنيب الخطيب فيما ساق في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب، ورد عليه عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله بكتاب سماه: التنكيل، لما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، والكوثري هذا من أئمة الجهمية في العصر الحديث، وله تعليقات على مجموعة من الكتب، منها: كتاب الأسماء والصفات للبيهقي، وكتاب الإنصاف للباقلاني، وكتاب التنبيه والرد للمطي، وكتاب تذكرة الحفاظ للإمام الذهبي رحمه الله، وطبع مجموعة من الكتب وعلق عليها، وملأ حواشيها بنقد مذهب السلف، وذم أئمة السلف، وكان يسمي كتاب التوحيد للإمام ابن خزيمة كتاب الشرك، قبحه الله.

فـ الكوثري لما جاء إلى هذا النص علق في كتاب الأسماء والصفات وقال: هذا نص صريح، بمعنى: أن هذا الكلام نص صريح في نفي المعنى، وهذا هو اعتقاد السلف، خلافاً للذين يقولون: إن اعتقاد السلف أن لها معاني، فيشبهون الله بخلقه، قبحه الله.

ولا شك أنه لم يفهم كلام الإمام أحمد على وجهه الصحيح، فإن الإمام أحمد رحمه الله لم ينف المعنى الظاهر لنصوص الصفات، وإنما نفى المعاني الباطلة التي يؤولون إليها الصفات، وقد يقول قائل: كيف عرفت؟

و

الجواب

هو أن الإمام أحمد رحمه الله له نصوص كثيرة في كتب أهل السنة، وفي كتابه الرد على الجهمية، توضح أنه يعتقد أن لظواهر النصوص معاني، فكيف نلغي هذه النصوص الكثيرة التي تملأ كتبه رحمه الله، ثم نأخذ كلمة واحدة ونقول: إن هذا هو مذهبه.

وهذه طريقة أهل البدع والضلالة، فإنهم يأتون إلى عالم من العلماء فيأخذون بعض أقواله التي فيها احتمال، ثم يروجون عنه أن هذا هو مذهبه، وينسون أن له مقالات صريحة واضحة بينة ترد هذا الاعتقاد الذي زعموا، ولهذا فإن الإمام أحمد رحمه الله له كتاب واضح اسمه: الرد على الجهمية والزنادقة، وواضح من كتابه ومن خلال النصوص التي نقلت عنه في كتب أئمة أهل السنة، أنه يعتقد أن ظواهر النصوص مرادة، وأنها على حقيقتها بلا كيف.

إذاً: قوله: ولا كيف ولا معنى، فيه رد على المشبهة الذين كيفوا صفات الله عز وجل بصفات خلقه، وفيه رد على المعطلة الذين جاءوا بتأويلات باطلة من عند أنفسهم، وفسروا بها معاني النصوص، وجاءوا بمعان باطلة.

وقول الإمام أحمد: (ولا معنى)، ليس المقصود: أن نصوص الصفات ليس لها معنى في الحقيقة، ليس هذا مقصوده رحمه الله كما تدل عليه نصوصه الأخرى.

وأيضاً استدلوا بنفي بعض السلف تفسير نصوص الصفات، قالوا: إن بعض السلف نفوا تفسير نصوص الصفات، قالوا: ما دام أنه لا تفسير لها فلا معنى لها، فزعموا أن السلف يرون التفويض، وهذا أيضاً باطل، فإن التفسير الذي نفاه السلف هو التفسير الباطل، وهو المعنى الباطل، وهو الذي قالوا عنه: أمروها كما جاءت، يعني: لا تفسروها بمعان باطلة.

ونقل اللالكائي رحمه الله عن أبي عبيد القاسم بن سلام عندما سئل عن بعض أحاديث الصفات قال: هذه الأحاديث عندنا حق يرويه الثقات بعضهم عن بعض، إلا أنا إذا سئلنا عن تفسيرها قلنا: ما أدركنا أحداً يفسر منها شيئاً، ونحن لا نفسر منها شيئاً، نصدق بها ونسكت، قالوا: ما دام أنه لا يفسر شيئاً فلا معنى لها! قلنا: لا، أنتم مبطلون في هذا، كيف تأخذون نصاً واحداً عن عالم، وتتركون بقية نصوصه الأخرى؟! هذا باطل وهذا من الظلم، ثم إن الدارقطني رحمه الله روى في كتابه الصفات نفس هذا الخبر، بما يدل على أن البيهقي رحمه الله يقول: لا نفسر، يعني: لا نكيف صفات الله، ولا نأتي بتفسير باطل لها، فساق الدارقطني بإسناده عن أبي عبيد رحمه الله أنه قال نفس النص بلفظ آخر، قال: هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا شك فيه، ولكن إذا قيل: كيف وضع قدمه؟ وكيف ضحك؟ قلنا: لا يفسر هذا، ولا سمعنا أحداً يفسره.

إذاً: ما هو الشيء الذي قال عنه أبو عبيد: إنا لا نفسره؟ هو قوله: وإذا قيل: كيف؛ لأن الكيف مجهول لا يمكن أن نعرفه، وإن كان للصفات كيفية في نفس الأمر.

إذاً: نخلص من هذا أن استدلال المفوضة بما ورد عن السلف رضوان الله

<<  <  ج: ص:  >  >>