للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[معنى كلمتي السلف والخلف في الاصطلاح العرفي]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها، من أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم].

هنا تعليق ممتاز للمحقق، وهو أنه وجد في بعض النسخ إضافة كلمة، وإن كانت هذه العبارة صدرت من بعض العلماء لكنه يعني بها معنى صحيحاً، فهذه العبارة في بعض النسخ أضيفت إلى رسالة ابن تيمية هذه، وقد أثبت المحقق أن هذه العبارة ليست من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية من عدة اعتبارات، منها: أن هذه العبارة ليست موجودةً في جميع النسخ الخطية لهذا الكتاب، وهي تصل إلى تسع نسخ، عدا واحدة هي النسخة الظاهرية الموجودة فيها هذه العبارة.

والاعتبار الثاني: أن هناك نسخة هندية وجدت هذه العبارة معلقة على الهامش، مما يدل على أنها ليست من كلام الشيخ، ومنها أيضاً أن ابن عبد الهادي تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية نقل نصاً طويلاً من الحموية في كتابه العقود الدرية، ولم يذكر هذه العبارة، وكذلك مرعي بن يوسف الكرمي في ترجمته لـ شيخ الإسلام.

أيضاً يقول: إن هذه العبارة باطلة في معناها، وقد تكون مدخلاً لتسويغ مقولة باطلة، وكلامه هذا صحيح، قال: [فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف على طريقة السلف إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:٧٨]، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات].

وهنا يمكن أن نشير إلى فائدتين: الفائدة الأولى: هو تحديد معنى مصطلح السلف ومصطلح الخلف، فمصطلح السلف تكلموا عليه من ناحيتين: من الناحية اللغوية، ومن الناحية العرفية.

فمن الناحية اللغوية، سلف يعني: مضى، فكل من تقدم فهو من السلف، وبناءً على هذا المعنى اللغوي يشمل كل من تقدم سواءً كان صالحاً أو طالحاً، خيراً أو شريراً، والخلف: هو كل من تأخر، لكن ليس مقصود من تكلم على موضوع السلف وموضوع الخلف في كتب العقائد أنه المعنى اللغوي، وإنما مقصودهم المعنى العرفي.

والمعنى العرفي: أن السلف هم الذين تقدموا من الصحابة والتابعين والصالحين، ويندرج معهم من سار على نهجهم حتى لو كان من المتأخرين، فإنهم يسمون أتباع السلف، ولهذا قد يسميهم البعض: السلفيين، أي: أتباع للسلف المتقدمين الذين كانوا على عقيدة معينة، وهي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة.

والخلف له معنى عرفي، وهو: من كان مخالفاً لطريقة السلف من أهل الكلام كالصوفية مثلاً، والفلاسفة الباطنية وغيرهم، فهؤلاء من الخلف، وإن كان قد يراد بكلمة الخلف في مثل هذا الموطن الأشاعرة، يعني: عندما يقال: منهج السلف أسلم، ومنهج الخلف أعلم وأحكم، قائل هذه العبارة يقصد بالسلف المتقدمين من الصحابة والتابعين وغيرهم، ويقصد بالخلف الأشاعرة من أهل الكلام.

والحقيقة أن كلمة السلف تطلق على كل من كان معتقداً للحق من الناحية العرفية، والخلف تطلق على كل من كان معتقداً للباطل، لا سيما في موضوع نصوص الصفات.

الفائدة الثانية: أن السبب الذي جعل هؤلاء ينسبون إلى السلف أنهم لا يفهمون للنصوص معاني، وأن الخلف المتأخرين الذين يؤولون النصوص هم أعلم؛ السبب في هذا هو الغرور، وهكذا فإن هذه الصفة إذا وجدت في أشخاص فإنهم يتجرءون على السلف، وسأذكر الخصلة التي وجدت عند هؤلاء، ثم أربطها بمجموعة موجودة في الواقع المعاصر الآن.

هؤلاء -أقصد الخلفيين- الذين يقولون: إن طريقة السلف أسلم، وأنهم مثل عوام الصالحين الذين لا يفهمون الكلام بشكل دقيق، ويصورونهم مثل الدراويش، يعني: ليسوا أصحاب عقليات، وأصحاب تفكير، وأصحاب منطق مثلاًً، نشأت هذه المشكلة عندهم من كتب اليونان، عندما ترجمت إلى الأمة الإسلامية درست، فلما درست تبناها مجموعة سموا بالفلاسفة، وهؤلاء الفلاسفة اعتقدوا عقائد باطلة، وقلدوا اليونانيين، فظهرت طائفة في المجتمع الإسلامي سميت المعتزلة فيما بعد، هؤلاء الطائفة ردوا على الفلاسفة، وقالوا: إنكم أنتم أصلاً مخالفون للعقليات.

ثم بعد إنكار السلف رضوان الله عليهم على هذه الطائفة الجديدة المنتسبة إلى الإسلام، الذين هم المعتزلة، وحصلت الفتنة التي هي فتنة خلق القرآن، وانتصر فيها أهل السنة، ظهرت طائفة من المنتسبين إلى السنة عظمت العقليات، وأعجبت بما عند المعتزلة وما عند الفلاسفة من استخدام العقل والتفكير، وظنوا أن من مقتضى استخدام العقل والتفكير أن ينقد السلف الصالح، وأن تنقد النصوص الشرعية؛ لأنهم فهموا أن السلف ليس عندهم عقليات، وأنهم أناس نصيون، يعني: يأتيه الأمر من الله أو من الرسول، ولا يفكر فيهما، وأن عقائد هؤلاء ليست مبنية على أمور يقينية

<<  <  ج: ص:  >  >>