للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[نقل ما ذكر عن السلف الصالح في ذم أهل الكلام]

وبناءً على هذا فإن السلف رضوان الله عليهم أجمعوا على ذم علم الكلام.

ويمكن أن أنقل كلام الحافظ أبي عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى في كتابه جامع بيان العلم وفضله، يقول أبو عمر: أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والفهم.

انتهى كلامه.

ونقل أيضاً إجماع السلف الصالح على ذم علم الكلام الغزالي في إحياء علوم الدين، مع أنه من أهل الكلام، إلا أنه نقل إجماعهم على ذمه لأنه كان في مرحلة التصوف.

والغزالي كما تعلمون له مراحل، فقد كان رجلاً ذكياً فاشتغل في العقليات حتى وصل إلى درجة الفلسفة، ثم ترك ذلك واتجه إلى علم الكلام، ثم ترك ذلك واتجه إلى التصوف، ثم في آخر أمره رجع إلى السنة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله أنه توفي وصحيح البخاري على صدره رحمه الله، لكنه لم يؤلف شيئاً بعد أن رجع إلى السنة، وكتابه إلجام العوام عن علم الكلام ألفه في مرحلته الصوفية؛ لأنه رأى أن أدلة علماء الكلام لا توصل إلى اليقين، وأن الذي يوصل إلى اليقين هو تجريد النفس لله عز وجل والتعلق بالله عز وجل، عن طريق الأذكار التي اخترعها ويخترعها الصوفية، وملأ بها كتابه الإحياء، لكنه نقل إجماع السلف على ذم علم الكلام.

ويمكن أن ننقل ذم الأئمة الأربعة لعلم الكلام، وهذا كافٍ في حد ذاته؛ لأن عامة المتأخرين ينتسبون إلى واحد من هؤلاء الأئمة، إما يكون حنفياً أو يكون مالكياً أو يكون شافعياً أو يكون حنبلياً، فالمتأخرون أكثرهم ينتسبون إلى الأئمة في الفقهيات ويخالفونهم في العقائد.

فمن أقوال الأئمة قول لـ أبي حنيفة رحمه الله، خصوصاً أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان متخصصاً في علم الكلام وعرفه، وكان يوماً من الأيام يقول بخلق القرآن ثم رجع عنه وتاب رحمه الله تعالى، سئل الإمام أبو حنيفة: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ - هذه مصطلحات عند أهل الكلام وهي متعلقة بدليل الحدوث، وهو أكبر دليل موجود عندهم، عطلوا من أجله الصفات - فقال: مقالات الفلاسفة؟! عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة! هذا قول الإمام أبي حنيفة، ففيه رد على الماتريدية الذين ألفوا الكتب في علم الكلام، وهم ينتسبون إليه في الفقهيات والفروع.

وأما الإمام مالك رحمه الله فروى عبد الرحمن بن مهدي قال: دخلت على مالك وعنده رجلٌ يسأله عن القرآن، فقال: لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد! وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء هما أول المعتزلة الذين خرجوا عن منهج السلف عندما ناقشا الحسن البصري رحمه الله تعالى في مسألة الفاسق الملي وقالا: إنه في منزلة بين المنزلتين، ثم اعتقدوا عقائد الجهمية بعد ذلك في موضوع الصفات، قال مالك: لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد، لعن الله عمراً فإنه ابتدع هذه البدعة من الكلام، ولو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل.

وهذا رواه أبو إسماعيل الهروي في كتابه ذم الكلام وأهله.

وأما الشافعي فقد تواتر عنه ذم علم الكلام، منها مقولته المشهورة: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وذهب إلى علم الكلام.

ويقول: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يُفَرُّ من الأسد.

وهذا رواه أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.

وأما الإمام أحمد فإنه مشهور في ثباته في موضوع خلق القرآن، والذين جاءوا بذكر خلق القرآن هم أهل الكلام، وعندما كان القاضي أحمد بن أبي دؤاد قريباً من المأمون أقنعه بفتنة الناس على خلق القرآن، فأخر المأمون قوله، يعني: أخر فتنة العلماء في قضية خلق القرآن إلى آخر عمره، مع أنه كان يعتقد هذا الاعتقاد من فترة مبكرة، والسبب في هذا أن شيخ الإمام أحمد وهو يزيد بن هارون رحمه الله تعالى كان إماماً محبباً إلى العامة، فقال المأمون يوماً لجلسائه: لولا منزلة يزيد بن هارون لأعلنت القول بخلق القرآن، وامتحنت الناس عليه، فقال له أحد جلسائه: ومن يزيد بن هارون حتى يمنع أمير المؤمنين من إعلان ما يريد؟ فقال: ويلك أخشى أن يعارضني، فتكون فتنة وأنا لا أحب الفتنة، فقال: دعني أجرب ذلك مع يزيد بن هارون! فذهب هذا الجليس إلى

<<  <  ج: ص:  >  >>