للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الميثاق الذي أخذه الله عز وجل من آدم وذريته]

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين.

أما بعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق].

أخذ الله سبحانه وتعالى من ظهر آدم ذريته، وجمعهم في مكان واحد، واستنطقهم سبحانه وتعالى، وأشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:١٧٢] فقال الله عز وجل لهم: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:١٧٢]، وهذا الميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على بني آدم من ظهر آدم هو قبل أن يخلق الناس، والميثاق فيه أربع مسائل كبار: المسألة الأولى: مسألة الفطرة، والمسألة الثانية: مسألة الأرواح، والمسألة الثالثة: مسألة القدر، والمسألة الرابعة: مسألة قيام الحجة.

والشيخ أبو جعفر الطحاوي رحمه الله أوردها في صدر الكلام على القدر، كأنه يشير إلى أن الميثاق نوع من أنواع القدر المكتوب، كما سيأتي ذكره.

ويدل على الميثاق قول الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:١٧٢ - ١٧٣]، والإشهاد والاستنطاق وأخذ الميثاق أمر متفق عليه بين السلف الصالح رضوان الله عليهم، إلا أنهم اختلفوا في مسألة: هل آية الأعراف تدل على هذا الأمر الذي هو أمر الميثاق وإخراج الذرية واستنطاقهم وإشهادهم، أو أنها لا تدل؟ أما استنطاقهم وإخراجهم وإشهادهم على أنفسهم فقد دلت عليه جملة من الأحاديث، منها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحديث ابن عمر رضي الله عنه، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وكل هذه الأحاديث منصوصة في كتب أهل العلم في المسانيد والسنن والجوامع، وهي وإن كان كثير من طرقها فيه ضعف إلا أن بعضها يجبر بعضاً، وقد جمع طرقها الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة واستفاض في تخريجها وأطال رحمه الله تعالى.

ويمكن أن نذكر من هذه الأحاديث حديث ابن عباس رضي الله عنه، وهو قوله: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان -يعني: بعرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه، ثم كليهم قبلاً، قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:١٧٢] إلى آخر الآيات).

وكذلك روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو ما رواه عن ابن عباس، إلا أنه زاد: (إن الله عز وجل مسح ظهر آدم بيمينه واستخرج منها ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله! ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار) ونحو ذلك من الأحاديث التي تدل على أن الله عز وجل استخرج من ظهر آدم ذريته، وأشهدهم على أنفسهم.

لكن اختلف السلف الصالح رضوان الله عليهم في آية الأعراف، هل هي نفسها المقصودة في الأحاديث؟ يعني: هل الأحاديث وآية الأعراف شيء واحد، أم أن الآية تدل على معنى والأحاديث تدل على معنى آخر؟ جمهور أهل العلم يقولون: إن الآية هي نفسها المرادة في الأحاديث، ولهذا جاء نصها في حديث ابن عباس رضي الله عنه كما سبق.

وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم في كتابه الروح وأيضاً وافقهما الشارح يرون أن الآية التي في سورة الأعراف لا توافق الأحاديث الواردة في استخراج الذرية وإشهادهم على أنفسهم وإقرارهم بذلك.

وهذه المسألة التي في تفسير الآية الخلاف فيها سهل وبسيط، لكن أهل العلم اتفقوا على مسائل الاعتقاد التي تضمنها هذا الميثاق الوارد في الأحاديث، فقد اتفقوا على أن الميثاق يدل على الفطرة، ويدل على أن الله عز وجل خلق كل ا

<<  <  ج: ص:  >  >>