للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المرتبة الرابعة: الخلق]

المرتبة الرابعة: مرتبة خلق أفعال العباد، يقول الله عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام:١٠٢]، فقوله عز وجل: ((خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) يشمل أفعال العباد، ويقول الله عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦]، ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:٤٣]، ويقول: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:٢] يعني: الذي خلق و (ما) موصولة تعم، وعقيدة أهل السنة: أن الله سبحانه وتعالى خالق العباد وأفعالهم، ومما خلق سبحانه وتعالى من أفعال العباد إرادتهم وأنهم يفعلون الفعل عن إرادة واختيار.

وآراء الفرق في هذه المسألة يمكن أن نقسمها إلى رأيين مشهورين: الرأي الأول: رأي القدرية، وهم المعتزلة.

والرأي الثاني: رأي الجبرية.

فأما المعتزلة فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى لم يخلق أفعال العباد، وإن العباد يحدثون أفعالهم، واختلفوا هل يصح أن نسمي العبد خالقاً لفعله أو أنه محدث له؟ فأما المتقدمون فلقربهم من عهد السلف كانوا يتجنبون اسم الخلق ويقولون: إنه محدث لفعله، وأما المتأخرون فإنهم ينصون على أنه خالق لفعله حقيقة، وقال المعتزلة بهذا بسبب هو أنهم يريدون أن يفروا من الجبر، وأن الله عز وجل لم يجبر العباد على شيء من الأعمال، ولهذا يسميهم كثير من الكتاب المعاصرين: أتباع حرية الإرادة، يعني: الذين يطالبون بأن يكون الإنسان حراً مختاراً مريداً، والحقيقة أن الله عز وجل خالق لأفعال العباد وليس في هذا جبر عليهم، فإن مما خلق إرادتهم التي يريدون بها والتي يختارون بها، فإرادتهم مخلوقة له سبحانه وتعالى، ومشيئتهم مخلوقة لله عز وجل، لكن طبيعة هذه الإرادة هي أنهم يختارون ما يشاءون من غير جبر، ويتركون ما يشاءون من غير جبر، وأما الكتابة السابقة فإنه لا يوجد فيها جبر، وإنما الكتابة التي كتبها الله عز وجل هي ما علمه سبحانه وتعالى، والله عز وجل علمه واسع يشمل السابق واللاحق ويشمل كل شيء، ومما علم سبحانه وتعالى هو أن العبد سيختار الكفر أو سيختار الإيمان، فكتب ما علمه، ولهذا لا حجة للجبرية في كون الله عز وجل خالق لأفعال العباد، ولا حجة للقدرية في كونه خالق لأفعال العباد فيما وصلوا إليه من القولين المتناقضين، فهما يعني: أصل دعواهما واحدة، لكن لكل طائفة قول غير قول الطائفة الأخرى.

أما الجبرية فإنهم على نوعين: جبرية خالصة، وهم الجهمية الأولون.

وجبرية تسمى جبرية جزئية وهم جبرية الأشاعرة.

فأما الجبرية الخالصة فإنهم قالوا: إن العبد مجبور على فعل نفسه، كما قال جهم، وإن العبد مثل الريشة في مهب الريح، وإن أفعاله كلها اضطرارية، وليس فيها شيء اختياري، وإن العبد إذا فعل ما فعل إنما يفعله عن جبر وليس عن اختيار، وصار لهذا الرأي قبول عند المتأخرين من الصوفية ونحوهم؛ فإنهم يعتقدون أن العبد مجبور على فعل نفسه، وأنه ليس له اختيار فيما يفعله، ولهذا يعتقدون أن الأفعال التي يفعلها العبد هي أفعال صالحة؛ لأن الله يحبها، هكذا يظنون، فلما جاءت معها عقيدة وحدة الوجود، أصبح فعل العبد هو نفسه فعل الله عندهم، ولهذا يقول ابن عربي: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه ويقول: العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف يعني: كيف يكلف؟ ولهذا كثير منهم يعتقد أن النصارى إنما وقع منهم الشرك لأنهم حددوا إلهاً معيناً، والواجب أن يكون كل شيء إلهاً! يعني: أنهم أكثر غلواً من النصارى وأكثر غلواً من اليهود، وهذه عقيدة ابن عربي وابن سبعين وغيرهم من الصوفية الملاحدة، وهم الذين يسمون بفلاسفة الصوفية.

وأما الأشاعرة فكما هي حالهم في كثير من مسائل العقيدة: يأتون ويريدون التوسط، ثم يضطربون ويميلون في آخر المطاف إلى أحد المذاهب الباطلة، فهم أرادوا التوسط بين مذهب القدرية ومذهب الجبرية، فأثبتوا أن الله خالق لأفعال العباد، فوافقوا السلف في هذا، ثم أرادوا أن يثبتوا للعبد فعلاً معها فتورطوا كيف يجمعون بين كون الله عز وجل خالق لفعل العبد، وبين كون العبد له فعل، فتوصلوا في النهاية إلى أن العبد له شيء سموه كسباً، والكسب هذا عند التحقيق وعند تحرير مذهبهم لا شيء، وإنما هو اسم الفعل، ولهذا شبهه إمام من أئمتهم وهو أبو منصور البغدادي في كتابه (أصول الدين) بأنه مثل الرجل الكبير الذي يحمل صخرة ومعه طفل صغير يحمل معه هذه الصخرة، ولو أن الطفل الصغير ما حملها لحملها الكبير، فلما حملها معه الصغير سمي حاملاً؛ لأنه يحملها معه، لكنه في الحقيقة ليس بحامل، وهذه هي عقيدة الأشاعرة في موضوع الكسب، ولهذا يقول أحد أئمتهم وهو الأيجي في كتاب له اسمه (المواقف): الجبرية نوعان: جبرية خالصة، وهم ال

<<  <  ج: ص:  >  >>