للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ذكر بعض أدلة إثبات صفتي السمع والبصر]

عقد البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب التوحيد باباً لهاتين الصفتين، قال البخاري رحمه الله: [باب قول الله عز وجل: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:١٣٤]].

(كان) هنا -كما يقول النحويون وأهل العربية-: تدل على الاستمرار والثبات الدائم، ولهذا عندما يبحث العلماء في أصول الفقه مسألة أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل مجرد الفعل يدل على استمرار، يذكرون في خضم هذه المباحث مسألة مهمة جداً وهي: أنه صدر الفعل بقوله: (كان)، فهو يدل على الاستمرار قطعاً، وإذا صدر الفعل بكان فهو يدل على الاستمرار؛ لأن من معانيها الاستمرار والثبات، فقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:١٣٤] تدل على الثبات والاستمرار.

وبعض أهل العلم قالوا: إنها بمعنى صفة الله عز وجل؛ لظنهم أنها تدل على الماضي، وإذا راجعتم كلام النحويين وكلام أهل العربية؛ فإنكم ستجدون أنهم يقررون أن (كان) تدل على الاستمرار.

روى البخاري رحمه الله حديثاً عن عائشة رضي الله عنها معلقاً، وهو: أن عائشة رضي الله عنها قالت: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات! فأنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:١]).

والبخاري لم يكمل الحديث، وتمام الحديث كما هو معلوم: (أن خولة بنت ثعلبة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي وتجادل النبي صلى الله عليه وسلم عندما ظاهر زوجها منها، فقالت: يا رسول الله! إن عندي عيالاً إن آويتهم جاعوا، وإن أعطيتهم إياه ضاعوا، فكانت تجادله، وكانت عائشة رضي الله عنها في طرف من البيت ومع هذا لم تسمعها، فقالت: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:١]).

ثم ساق حديثاً بإسناده عن أبي موسى قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا، فقال: أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً وإنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً) وهذا هو موطن الشاهد: (تدعون سميعاً بصيراً قريباً).

فقوله: (كنا إذا علونا كبرنا) هكذا كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا علا نشزاً كبر، وإذا نزل سبح، فكانوا يرفعون أصواتهم، فقال: (أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً تدعون سميعاً بصيراً قريباً).

وساق أيضاً بإسناده عن عبد الله بن عمرو: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! علمني دعاءً أدعو به في صلاتي فقال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي من عندك مغفرة، إنك أنت الغفور الرحيم).

هذا الحديث يبدو للناظر من أول وهلة أنه لا علاقة له بباب إثبات صفة السمع والبصر، فما هو وجه الدلالة؟ أو لماذا جاء البخاري رحمه الله بهذا الحديث في إثبات صفة السمع والبصر؟ يمكن أن نقول: إن هذا الدعاء يدل على صفة السمع من جهة أنه لو لم يكن الله عز وجل يسمع هذا الدعاء لما كان للدعاء فائدة، ولما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء، هكذا استدل البخاري رحمه الله بهذا الحديث على أن الله عز وجل يسمع.

ولهذا يقول ابن عقيل الحنبلي رحمه الله: إن هذا الحديث يدل على مجموعة من الصفات: أولاً: وجود الله عز وجل؛ لأنه لو كان غير موجود لما صح دعاؤه.

ثانياً: السمع؛ لأنه لو لم يكن سميعاً ويسمع بسمع لما كان هناك دعاء.

ثالثاً: الغنى؛ لأن الفقير لا يدعى.

رابعاً: الرحيم؛ لأن القاسي والظلوم الذي ليس عنده رحمة لا يدعى.

خامساً: يدل على أن الله عز وجل عليم سبحانه، ويدل على مجموعة من الصفات ذكرها رحمه الله تعالى، وكل ذلك استنبط من الدعاء.

ثم أيضاً ساق حديث عروة: أن عائشة رضي الله عنها حدثته قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل عليه السلام ناداني قال: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك).

هذا جزء من حديث طويل: سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد ما وجد من قومه، فذكر لها قصة، وهذا جزء منها وهو محل الشاهد: (إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك) فهذه الأحاديث والآيات التي ساقها الشيخ جميعاً تدل على إثبات صفة السمع لله سبحانه وتعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>