للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المعتقد في رؤية الله في المنام]

وأما مسألة رؤية الله في المنام، وهل يمكن للإنسان أن يرى الله في المنام؟ فقد اتفق الصحابة والتابعون على جواز ذلك ووقوعه، وقد وقع ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث اختصام الملأ الأعلى، ففي حديث اختصام الملأ الأعلى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي في أحسن صورة).

والرواية التي توضح أن الرؤية منامية هي رواية معاذ بن جبل، فهذا الحديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من صحابي، وفيه كلام كثير لأهل العلم في صحته.

والصحيح: أن هذا الحديث صحيح وثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أراد التطويل والاستزادة في هذا الموضوع ومراجعة أقوال أهل العلم فيه فليراجع كتاب ابن رجب الحنبلي رحمه الله في شرح هذا الحديث، بتحقيق الأستاذ جاسم الفهيد الدوسري، فقد أطال في تخريجه إطالة كبيرة.

ورواية معاذ بن جبل هي أنه قال: (احتبس لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعاً فَثَوّبَ بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجوز في صلاته، فلما سلّم دعا بصوته فقال لنا: على مصافكم كما أنتم، ثم انفتل إلينا فقال: أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: إني قمت من الليل فتوضأت فصليت ما قُدِّر لي، فنعست فاستَثقَلتُ، أو فاستُثقِلتُ فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد! قلت: ربِ لبيك، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟) إلى آخر الحديث، وهو حديث طويل وفي قوله: (فنعست)، وقوله: (استُثقِلت، أو استَثقَلت)، وقوله: (رأيت ربي في أحسن صورة)، ما يدل على أن هذه الرؤية رؤية منامية، والرؤية المنامية قريبة من الرؤية القلبية، والإنسان بحسب طاعته وخوفه من الله عز وجل وتقواه وإيمانه وإخلاصه وإحسانه قد يرى في النوم صوراً وأحوالاً، وهذه الصور والأحوال ليست هي حقيقة ذات الله وصفاته؛ لأن الله كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١].

وكما قال: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:٢٧]، وهذه الرؤى والأحوال التي يراها وهو نائم تعبر عن إيمانه، ويشعر في قلبه وهو نائم أن هذا هو ربه، وليس هو الله عز وجل حقيقة، ونحن نعلم أن الإنسان في النوم وكِّل به ملك من الملائكة يضرب له الأمثال، فما يراه الإنسان في منامه هي عبارة عن أمثال تُضرب له، ولهذا كان تعبير الرؤى مقبولاً، وقد أفرد البخاري رحمه الله في صحيحه كتاب: تعبير الرؤى، وقد عبّر النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من المنامات لأصحابه، وهو القائل: (رأيت في النوم أن الناس يُعرضون عليّ وعليهم قمص، ورأيت عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: بم عبّرت ذلك؟ قال: عبّرته بالدين).

فهذا مثال يُضرب للإنسان وهو نائم بمعنى من المعاني، وقد يكون في بعض الأحيان أضغاث أحلام، فالإنسان كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكِّل به ملك وشيطان، وللملك لمّة وللشيطان لمّة، سواء في حال يقظته، أو في حال منامه، فما كان من الرؤى التي لها معنى صحيح ودلالة صحيحة فهي من الملك، وهي عبارة عن ضرب أمثال، وما كان من أضغاث الأحلام فهي من الأحلام.

ولهذا ليس كل ما يراه النائم تكون رؤيا ولها تعبير، فقد يكون أضغاث أحلام، وقد يكون المنام في بعض الأحيان له معنى وتعبير.

فالإنسان في نومه لا يرى حقيقة الله عز وجل وحقيقة صفاته، وإنما يضرب له المثل ويشعر في قلبه أن هذا هو الله، ويراه في صور مختلفة، وقد يرى فلان بن فلان صورة، ولا يرى فلاناً، وليس بالضرورة أن كل إنسان يُضرب له هذا المثل، وقد ينقل عن بعض العلماء أنه قال: رأيت الله في المنام فقمت وقال لي، فليس المقصود بهذا أنه رأى الله عز وجل بذاته وصفاته حقيقة؛ فالله ليس كمثله شيء، وإنما رأى شيئاً في المنام في صورة معينة ضربها له الملك بحسب إيمانه، فيشعر في قلبه أنها الله، وليست هي الله سبحانه وتعالى حقيقة.

فينبغي ملاحظة هذه القضية، فالنائم مثلاً يرى في نومه أنه يتكلم ويصيح ويُضرب أو يَضرِب ويفعل الفعل ويقوم ويتنقل ويسافر ويهاجر ويأتي هنا وهناك، وهو في الحقيقة لم يتكلم، بل لسانه صامت ولم يسمع شيئاً بإذنه الحقيقية، وإنما هي ضرب أمثال.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى في المجلد الثالث صفحة (٣٩٠): [وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحاً لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه، ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة ولها تعبير وتأويل، لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق].

فمثلاً: في كتاب (مناقب الإمام أحمد) لـ ابن الجوزي يذكر الإمام أحمد فيه: أنه رأى ربه في المنام، وقد يستعظم هذه المسألة بعض الناس و

<<  <  ج: ص:  >  >>