للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرد على استدلال منكري عذاب القبر بانتفاء حركة الميت]

الدليل الثالث الذي استدلوا به: أن الإنسان إذا مات ودفن فإنه يبقى سنيناً طويلة لا يتحرك.

وقال بعض الفلاسفة: إن الزئبق هو أشد المواد حركة إذا وُجد ما يحركه.

وعندما يوضع الزئبق على بدن الميت فإن هذا الميت لا يتحرك.

وبناءً عليه فإن الزئبق سيبقى في نفس المكان سنيناً طويلة.

ولو كان يعذب في قبره كما ورد في الحديث: من أنه يسأل ويضرب ويصيح ويوسع له قبره ويأتيه من روحها وريحانها ويضحك ويتحرك لتحرك هذا الزئبق الذي عليه.

وهذا القول قول فاسد من حيث العقل؛ لأن هذا الكلام الذي نقوله عن عذاب القبر ونعيمه وعن الغيبيات جاءنا من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

والرسول صلى الله عليه وسلم ثبت صدقه عندنا بما لا يدع مجالاً للشك.

فقد ثبت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل لا نظير له.

ومن ذلك: أن الوحي الذي جاء به الرسول ونسبه إلى الله عز وجل يدل على صدقه بشكل مؤكد، حيث أنه أخبر فيه عن مغيبات ستقع فوقعت.

وأخبر فيه عن أمور في طبيعة البشر فثبت بالدليل العلمي الآن أنها صحيحة.

وأيضاً: معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وآياته التي جاء بها مثل انشقاق القمر نصفين، ونبع الماء من بين أصابعه.

وفي ذات الوقت فالرسول صلى الله عليه وسلم ليست طبيعته كطبيعة السحرة والكهنة.

وقد يقول قائل مثلاً: انفلاق القمر نصفين يفعله السحرة والكهنة، فنقول: السحرة والكهنة لهم طبيعة خاصة، فتجد فيهم الكذب والوسوسة والحمق، وغيرها من الأمور، بينما هذه الأشياء ليست موجودة في الرسول صلى الله عليه وسلم.

فالرسول صلى الله عليه وسلم إنسان مستقيم الفطرة والطبع، ولم يحفظ عليه خطأ، أو تصرف غير طبيعي، وإنما كانت تصرفاته جميعاً طبيعية، وكانت أخلاقه كريمة، وكان صادقاً لا يكذب.

ومع هذا جاء بهذا الوحي العجيب الخارق، فلا يصح عقلاً أن يكون غير صادق.

والدليل على هذا قصة هرقل في حديث ابن عباس الطويل لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً مع عمرو بن أمية الضمري، وفيه: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى، اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن كفرت فإن عليك إثم الأريسيين {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران:٦٤]).

فلما وصلته هذه الرسالة قال: اطلبوا لي أحداً من العرب في بلاد الشام، فجيء له بـ أبي سفيان ومجموعة -يصلون إلى العشرين- من أهل مكة.

فقال: من أقربكم نسباً من هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي؟ قال أبو سفيان: أنا.

قال: تقدم.

فتقدم.

ثم قال له: إن سائلك عن هذا الرجل فإن كذب فكذبوه.

فسأله أسئلة شاملة لأحوال الرجل من كل جهاته.

فسأله عن دعوة النبي، وعن طبيعته الشخصية، وعن علاقته بهم، وعن تاريخه.

فسأله: هل يكذب؟ قال: لا قال: هل يغدر؟ قال: لا وهذه الأسئلة عن الطباع الشخصية.

وسأله عن التاريخ وعن الواقع الموجود، فقال: هل هناك من آبائه من ملك؟ قال: لا.

قال: هل هناك أحد منكم جاء بهذه الدعوة قبله؟ قال: لا.

وسأله أيضاً عن دعوته، فقال: بماذا يأمركم؟ قال: يأمرنا بأن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وبالصبر والصدق والعفاف، والبعد عن الزنا والكذب.

ثم استدل من هذا كله أنه نبي.

ولهذا قال: إنه لنبي، وإن كان ما تقولون حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين.

ولو ظننت أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولغسلت عن قدميه وشربت مرقتها.

فقد عرف أنه نبي.

لأن أحواله تدل على نبوته.

وإذا ثبتت النبوة للرسول صلى الله عليه وسلم فيلزمنا الإيمان بها وتصديقها.

وأركان النبوة أربعة: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.

كما ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.

ويمكن أن ترد هذه الأربع إلى ثلاثة: التصديق والاتباع والانقياد.

فالتصديق يعني: لخبره.

والاتباع يعني: لمنهجه وطريقته.

والانقياد يعني: لأمره من جهة الفعل، ولنهيه من جهة الترك.

<<  <  ج: ص:  >  >>