للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[معنى قوله تعالى: (لم يلد ولم يولد)]

{لَمْ يَلِدْ} [الإخلاص:٣] معناها: أن الله عز وجل ليس له ولد.

{وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:٣] يعني: أن الله عز وجل ليس له أب سبحانه وتعالى، وهذا يدل على كماله سبحانه وتعالى، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وهذه الآية فيها تنزيه لله عز وجل عن الولادة والولد.

وقد وجدت طوائف نسبوا إلى الله عز وجل الولد، وقد أبطل الله عز وجل نسبة الولد إليه بدليل عقلي واضح، وهو: أن وجود الولد يحتاج إلى وجود صاحبة -يعني: زوجة- وهذا أمر موجود في كل متولد، سواء كان من الإنسان أو الحيوان أو النبات، حتى النار كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فهي إنشاء من اشتباك شيئين بعضهما مع بعض، فيتولد عنهما النار، قال: كل المتولدات لا بد أن تكون من أصلين، ولا يوجد صاحبة لله عز وجل، وهذا أمر يعترف به المشركون ولا ينكرونه، ومع ذلك نسبوا له الولد؛ فدل ذلك على بطلان هذه النسبة عقلاً، وإلا فإن الله عز وجل منزه عن كل تلك الصفات سبحانه وتعالى.

يقول الله عز وجل في هذا الدليل العقلي: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام:١٠١]، هذا دليل عقلي، وهو استفهام إنكاري يتضمن النفي العقلي {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام:١٠١]، فإن العقل يقتضي أنه إذا وجد الولد لا بد أن توجد الصاحبة، فلما انتفت الصاحبة دل ذلك على انتفاء الولد كما هو معلوم.

وهناك طوائف أو ديانات كافرة نسبت لله عز وجل الولد منهم اليهود والنصارى، فاليهود قالت: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:٣٠]، والنصارى قالت: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:٣٠]، ولم يكتفو بهذا فقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:١٨]، يقول الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:١٨]، ويقول الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:٣٠].

وممن نسب لله عز وجل الولد: المشركون، حيث قالوا: إن الملائكة بنات الله، يقول الله عز وجل: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:٥٧] يعني: الولد، ولهذا يقول: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:٥٨]، فوجهه يسود وهو كظيم؛ لأن البنت عار عليه-كما يظن-ومع هذا ينسبها إلى الله عز وجل، وهذا يدل على فجورهم وشدة كفرهم والعياذ بالله، ولهذا يقول الله عز وجل: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا} [الإسراء:٤٠]، ويقول الله عز وجل: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات:١٤٩ - ١٥٠]، ولا شك أن كلام المشركين باطل كما هو معلوم.

ولا يوجد أحد يقول: إن لله زوجة، ولا توجد مقالة لأحد أبداً يقول فيها: إن لله زوجة، أو: إن لله صاحبة.

والدليل على ذلك: هو أن الله عز وجل عندما استدل على نفي الولد استدل بعدم وجود الصاحبة، ولا يمكن أن يستدل الله عز وجل على أمر إلا بأمر مقرر عندهم سابقاً، فلو كان هذا الأمر المستدل به ليس معترفاً به عندهم لما صح الاستدلال، فلما صح الاستدلال دل على أنه لا توجد طائفة من البشر تنسب لله عز وجل الصاحب.

لكن هناك إشكال وهو: أن الله عز وجل يقول في آية أخرى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات:١٥٨]، والجواب على هذا الإشكال: أن المقصود به: الملائكة، حيث نسبوا الملائكة إلى الله عز وجل، فقالوا: هم بنات الله، لكن قد يقول قائل: هنا الحديث عن الجن وليس عن الملائكة: فنقول: إن الِجَّنة المقصود بهم في هذه الآية: الملائكة، والدليل على هذا: أن الِجَّنة معناها: الوقاية، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصوم جُنَّة) يعني: وقاية، فمادة (جن) في لغة العرب تدل على الاستتار والوقاية، وهي حاصلة في الملائكة؛ لأن الملائكة يستترون عن بقية البشر، فيصبح معنى الِجَّنة هنا هو المعنى اللغوي وليس هو المعنى الاصطلاحي المعروف في خلق الله عز وجل الجن.

وأما قول الكلبي وغيره: إن المشركين يقولون: تزوج من الجن فولد له الملائكة، فلا شك أن هذا القول باطل؛ لأنه لا

<<  <  ج: ص:  >  >>