للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اكتمال منهج أهل السنة في جمعه بين المعرفة النظرية وأعمال الجوارح والقلوب]

يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ثم هم -يعني أهل السنة- مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر].

لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة جداً وهي: أنه مرت فترة على المشتغلين بالدعوة الإسلامية والعمل وبالبحوث الإسلامية، مرت فترة صوّر كثير من هؤلاء أن منهج أهل السنة والجماعة هو منهج خاص بالعقائد النظرية، فإذا قيل عند هؤلاء: منهج أهل السنة والجماعة، تبادر إلى ذهنهم مباشرة: عقيدتهم في الأسماء والصفات عقيدتهم في القدر عقيدتهم في الإيمان، وانتهى الموضوع عند هذا الحد، وانحرف بسبب هذا التصور طائفتان متقابلتان: الطائفة الأولى انحرفت عندما ظنت أن منهج أهل السنة والجماعة هو منهج نظري محصور في أبواب نظرية معينة في العقيدة فذهبوا يطلبون بقية أمور الدين من غير منهج أهل السنة، وقالوا: إن أهل السنة ليس عندهم شيء من أعمال القلوب والإيمان والتقوى والإخلاص، فاتجهوا نحو التصوف، وأرادوا إشباع هذه الحاجة بالتصوف، ولهذا تجد هذه الطائفة تقول: نحن منهجنا أو دعوتنا دعوة سلفية وطريقتنا طريقة صوفية، فيجمعون بين دعوة سلفية أي: على طريقة أهل السنة والجماعة، وطريقة صوفية، وقالوا: دعوتنا دعوة السلف في مسائل نظرية، فأنا في الأسماء والصفات أوافق السلف، وفي القدر واليوم الآخر موافق للسلف، وهكذا لكن أعمال القلوب يتصور أن السلف ليس لديهم منهج في هذا الموضوع، فاتجه نحو التصوف لتكملة هذا الجانب، مثل موضوع الدعوة إلى الله عز وجل، حيث ظن أن السلف الصالح ليس عندهم منهجاً متكاملاً في الدعوة إلى الله سبحانه، فاتجه إلى اختراع مناهج جديدة في الدعوة إلى الله عز وجل، ولهذا ظهر من يطالب بجمع الطوائف جميعاً بحجة أننا في زمن انكسرت فيه شوكة المسلمين العامة، فنحتاج إلى جمع الطوائف جميعاً لا على عقيدة أهل السنة، بل نجمعهم جميعاً ونترك الخلافات فيما بين هذه الطوائف، ولهذا يطالبون دائماً أن نسكت عن الخوارج وعن الشيعة، وعن المرجئة، وعن الجهمية، وأن نسكت عن الأشاعرة، وأن نسكت عن الصوفية، ويقولون: لا تتكلموا في هذه الأمور، فإنكم بذلك فرقتم المسلمين وشققتم صفوفهم، وهذا باطل؛ لأن جمع الناس بهذه الطريقة غير ممكن شرعاً وعقلاً، أما من ناحية الشرع فلأن الله عز وجل نهى عن لبس الحق بالباطل، وهؤلاء على الباطل، فكيف نلبسهم بالحق ونجمعهم مع أهل الحق ونسكت عن تبيين الحق وعن الرد على الباطل؟! فهو مخالف لشرع الله وقد سبق أن أشرنا إلى نماذج من مخالفة هذا الرأي لشرع الله عز وجل.

ومن جهة أنه غير ممكن واقعاً، فهؤلاء لو استمروا وقد استمروا في الدعوة إلى هذه الفكرة مدة ستين سنة تقريباً وهم يشتغلون في جمع الطوائف فما توصلوا إلى نتيجة، ولم يجمعوا أحداً، وإنما كونوا رأياً جديداً وهو: إرادة جمع الطوائف، فلم يجمعوا أهل السنة مع الخوارج وإنما بقي الخوارج على معتقداتهم، وبقيت الشيعة والمرجئة على معتقداتهم وبقي أهل السنة على سنتهم، ولم يجمعوا أحداً، وهذا دليل على بطلان هذه الفكرة واقعاً عملياً.

وأنا أتوقع بل أؤكد أن السبب عند الذين دعوا إلى هذه الفكرة هو أنهم يتصورون أن منهج أهل السنة هو منهج نظري تجريدي، ولهذا دائماً تجد هؤلاء مثلاً يقولون: لماذا لا تتكلمون مع الناس في مسائل أعمال القلوب؟ فهم يتصورون دائماً أن أهل السنة والمشتغلين بالدعوة إلى العقيدة الصحيحة أنهم يدعون إلى عقائد نظرية فقط، وأما أعمال القلوب والدعوة إلى الله عز وجل فيتصورون أن أهل السنة ليس لديهم منهج متكامل، ولهذا وجد في واقع المسلمين في حياتنا وفي أماكننا التي نعيش فيها دعاة عندهم هذا الانفصام، فتجد أنه على عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات وفي القدر، لكنه في أعمال القلوب يتجه نحو التصوف، فتجد أنه يذهب إلى شيخ يدرس على يديه التصوف، ويبدأ يشتغل معه التصوف ويعتقد أن هذا هو المنهج الصحيح، بل إنهم يشجعون طلابهم ويشجعون من يعرفون لهذه الطريقة وهذا المنهج، وهذا لا شك أنه منهج منحرف في التربية، فليس هذا بصحيح، فأهل السنة أصحاب منهج كامل في العقائد النظرية، وفي الأخلاق، وفي أعمال القلوب وتزكية النفوس، وأصحاب منهج كامل في الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي السياسة الشرعية، وفي كل أمر من أمور الدين، ولهذا يعتبر منهج أهل السنة هو منهج الإسلام الصحيح وبهذه الطريقة سنفهم الإسلام بشكل صحيح، أما إذا ظن البعض أن منهج السلف هو عبارة عن قضايا نظرية حينئذ سيتجهون إلى الباطل في بقية الأمور، وهذه هي الطائفة الأولى التي انحرفت بسبب هذه الفكرة.

وانحرفت طائفة أخرى بسبب الفكرة ذاتها، لكنها ضد الأولى فأقروا ضمنياً - وإن لم يقروا حقيقة بشكل علني - أن عقيدة أهل السنة هي عقيدة لتصحيح العقائد النظرية الخاطئة التي وقعت فيها الفرق الضالة، ثم لما ظنوا أن هذا هو منهج أهل السنة اكتفوا به، ولهذا أهملوا أعمال القلوب وتزكية النفوس، وأهملوا حسن الأخلاق والآداب وكرائم الصفات، وأهملوا الدعوة إلى الله عز وجل بشكل متنوع وبشكل قوي بحيث أنهم

<<  <  ج: ص:  >  >>