للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم منكري القدر]

فالإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، ولا يستقيم إيمان العبد إلا إذا آمن به، فالمنكر للقدر بكل المراتب الأربع كافر كفراً أكبر عند العلماء، وهو ليس من المسلمين، ولهذا فإن ابن عمر عندما جاءه اثنان من أهل البصرة فقالا له: إنه ظهر عندنا أقوام يتقفرون العلم -أي: ينتسبون إلى العلم- يقولون: لا قدر والأمر أنُفْ -أي: أن الأمر الذي يقوم به الإنسان جديد، وليس فيه قدر مكتوب سابقاً فقال لهم ابن عمر رضي الله عنه: لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر.

وهذا يدل على أن ابن عمر رضي الله عنه كان يرى كفر من أنكر القدر؛ لأن ابن عمر في هذا الحديث بيّن أن صدقة الإنسان لو كانت عظيمة لا يقبلها الله عز وجل منه إلا إذا كان مؤمناً بالقدر، والله عز وجل يقبل الصدقة من أصحاب المعاصي، بل ومن أصحاب الكبائر، ولا يقبل الصدقة وغيرها من العبادات من الكفار، ولهذا سألت عائشة رضي الله عنها الرسول صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان، وهو رجل كريم غني من أهل مكة من الكفار، كان يضع السفرة الكبيرة فيجتمع عليها الفقراء والمساكين، وكان يطعم الطعام، ويقسم الكساء على الناس، فقالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: هل ينفعه ذلك؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا؛ إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين).

وقد بيّن الله سبحانه وتعالى أن الكفار لا يقبل منهم أي عمل بقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:١٨] فأعمالهم مثل الرماد الذي يوضع على رأس جبل في يوم شديد الهواء فلا يبقى منه شيء، ولهذا يقول الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:٦٥] فالشرك يحبط العمل، فلا تقبل معه الصدقات، وهذا يدل على أن من أنكر القدر كله فليس من المسلمين، ولا من المؤمنين، ولا من الموحدين، أما من أنكر بعض مراتب القدر فهو بحسب المرتبة التي أنكرها، وبحسب نوع الإنكار، فمن أنكر علم الله سبحانه وتعالى فهو كافر بإجماع السلف، ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أجابوا خُصِموا، وإن أنكروا كفروا.

فمن أنكر صفة العلم لله عز وجل فهو كافر، أما من أنكر شيئاً من المراتب الثلاث الباقية فإنكاره إما أن يكون إنكار تكذيب، وإما أن يكون إنكار تأويل.

فأما إنكار التكذيب فهو أن ينكر تكذيباً لخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهذه المراتب الثلاث، فمن أنكرها وهو مكذِّب فليس بمسلم إجماعاً؛ لأن المسلم لا يمكن أن يكذب بخبر الله عز وجل.

وأما من أنكرها وهو متأول فإن الحكم على المتأول ينقسم إلى قسمين: فإن كانت له شبهة في التأويل قريبة من حيث اللغة العربية فلا يكفّر، بل هو من أهل البدع؛ وأما إذا لم تكن له شبهة من حيث اللغة العربية فإنه يكفّر.

مثال الأول: من أوّل بعض صفات الله عز وجل، كتأويل الأشعرية لليد بأنها القدرة، فهذا ليس بكفر، بل هو بدعة؛ لأن اليد تستخدم في لغة العرب بمعنى القدرة، فيقال: فلان له يد قوية، أي: له قدرة قوية يستطيع أن يعمل، وقد تفسر بمعنى النعمة، فيقال: فلان له يد عليك، وليس المقصود اليد الحقيقية، فمثل هذا لا يكفّر صاحبه، لكن يعتبر من أهل البدع؛ لأنه حرّف معاني كلام الله عز وجل، فالله عز وجل نسب لنفسه هذه الصفات، فلا يجوز لنا أن نغير معانيها، فإذا احتج بعض الناس بأن هذا يستلزم تشبيه الله بخلقه نقول: نحن نثبت هذه الصفات وننفي عنها المشابهة، أما أن نغير المعاني فهذا لا يصح ولا يجوز، بل هو من البدع.

ومثال المتأوِّل الكافر: الباطنية الذين قالوا في قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:٦٧]، فقالوا المقصود بالبقرة هنا: عائشة، فليس هناك ارتباط بين مسمى البقرة وبين اسم عائشة، وليس هناك ارتباط بين حقيقة البقرة وبين عائشة، وليس هناك استخدام في لغة العرب من قريب ولا من بعيد لكلمة البقرة يراد بها عائشة، ولم يستخدم أحد من الشعراء ولا من الأدباء ولا من العرب السابقين كلمة (بقرة) يريد بها عائشة رضي الله عنها، فهذا لا شك في أنه كفر مخرج عن الإسلام.

إذاً: الحق في مسألة التأوُّل أنَّه ليس كل متأوِّل يعذر، وليس كل متأوِّل يكفّر، بل لا بد من التفصيل فيها على النحو السابق الذي بيّنا، فإذا كان المنكر لبقية المراتب الثلاث عنده شبهة فإنه لا يكفّر، ولهذا فإن أهل العلم لهم قاعدة في تكفير أهل البدع، حيث يقسمون البدع إلى قسمين: بدع مكفّرة، وبدع غير مكفّرة، فأصحاب البدع غير المكفّرة لا يكفّرونهم، ولهذ

<<  <  ج: ص:  >  >>