للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ذكر ما جاء في النهي عن كثرة الحلف]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في كثرة الحلف، وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:٨٩] وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب) أخرجاه، وعن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زانٍ، وعائلٌ مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه) رواه الطبراني بسند صحيح، وفي الصحيح عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم -قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً- ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)، وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)، قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار].

المراد بهذا الباب هو النهي عن كثرة الحلف لسببين: السبب الأول: أن كثرة الحلف مظنة للكذب، والكذب في اليمين يجعلها غموساً إذا كانت يميناً عن الماضي، وكونه لا يفي بها في المستقبل يدل على عدم تعظيمه لله سبحانه وتعالى.

والسبب الثاني: أن كثرة الحلف فيها عدم تعظيم لله عز وجل.

وقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:٨٩] حفظ الإيمان جاء على قولين عند المفسرين، وكلا القولين صحيح: القول الأول: أن قوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:٨٩] يعني: احفظوا أيمانكم من كثرة الحلف، فلا تكثروا الحلف إلا فيما هو نافع ومهم.

القول الثاني: أن المعنى: إذا حلفتم ولم تستطيعوا الوفاء فأتوا بالكفارة؛ لأن الإنسان إذا حلف ولم يستطع الوفاء لا يجوز له أن يترك يمينه دون كفارة.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلف منفقة للسلعة) يعني: الحلف وسيلة لترويج السلعة، لكنه ممحقة للكسب، والمحق معناه: الإزالة، والكسب معناه: بركة الكسب؛ لأن السلعة إذا راجت في الدنيا فإنه يكثر الكسب من حيث العدد، ولكن تمحق من حيث البركة، ولهذا أخبر الله عز وجل أنه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:٢٧٦] ومحق الربا معناه: إزالة البركة منه، فتجد أن صاحب المال الربوي لديه مال كثير، ولكن لا ينفع صاحبه بشيء، وهذا فيه تنبيه للباعة الذين يبيعون ويحلفون على بيعهم، وهي مسألة تكثر عند كثير ممن يشتغل بالتجارة ويشتغل بالبيع والشراء، فيدفع سلعته للشراء بيمينه، وهذا لا شك في أنه منهي عنه.

وفي الحديث الثالث: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زانٍ) والأشيمط: هو الشيخ الذي ظهر فيه الشيب كثيراً، فإن قيل: لماذا الأشيمط الزاني أشد من الشاب الزاني؟ فالجواب أن الإنسان إذا كان كبيراً تكون رغبته في الحرام وفي الزنا أقل وشهوته أضعف، فكونه يقترف الزنا من غير دافع قوي للشهوة يدل على أنه مستخف بهذا العمل، ولهذا فإن الزنا كله من الكبائر، ولكن زنا الرجل الكبير في السن أشد من زنا الشاب؛ لأن الشاب قد يكون دافعه هو الشهوةَ لديه، بينما ذلك ضعيفٌ عند الشيخ الكبير، وكلاهما يستويان في كون الزنا من الكبائر، ولكنَّه بالنسبة للأشيمط الزاني أكبر، ولهذا يقول أبو الفتح البوستي: هب الشبيبة أبدت عذر صاحبها ما عذر أشيب يستهويه شيطان يقول: هب الشبيبة -أي: كون الإنسان صغيراً في سنه- أبدت عذر صاحبها، بأن عنده نزوات قد لا يستطيع التحكم بها إذا كان ضعيفاً، والأصل أن المسلم يستطيع التحكم في نفسه، يقول: فما عذر أشيب -يعني: رجل كبير جرب الحياة وعرفها وأصبحت النزوات عنده أضعف من غيره- يستهويه شيطان، أي: لا عذر له.

قال صلى الله عليه وسلم: (وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه) والعياذ بالله، وهذا هو الذي يتخذ اليمين وسيلة لإنفاق السلعة أو وسيلة للشراء، حيث يقلل المبلغ، مثل أن يأتي إلى شخصٍ فيقول: هذا المسجل وجدته في الدكان الفلاني، فيحلف على أنه وجده بكذا من السعر، فهو يكذب في هذا، وجعله أمراً مستديماً بالنسبة له، فلا شك في أن هذا يدل على عدم تعظيم الله سبحانه وتعالى.

وبقية الحديث هي في القرون المفضلة الثلاثة، ثم ذكر أوصاف القرون التي تلي هذه القرون المفضلة الثلاثة، وهي عصورنا هذه التي نعيش فيها اليوم، ذكر من أوصافهم أنهم قوم (يشهدون ولا يستشهدون)، يعني: لا تطلب منهم الشهادة ومع هذا يشهدون، (ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن).

وقوله: (يظ

<<  <  ج: ص:  >  >>