للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[دلالة الاستقراء على توحيد الربوبية]

فالاستقراء في توحيد الربوبية مثلاً يقول الله عز وجل: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤]، فهذه آية من آيات التوحيد، وعرفنا أنها من آيات التوحيد لأن مدلول التوحيد اللغوي هو الإفراد، والإفراد معناه الاختصاص، فأفردت الشيء أي أنه خاص بي، وليس عاماً للآخرين، فهذه الآية فيها معنى الاختصاص، ولهذا قد يمثل بهذه الآية في باب الحصر والقصر في البلاغة، ووجه الاختصاص في هذه الآية هو تقديم ما حقه التأخير، وإعراب هذه الآية كما يلي: (ألا) أداة تنبيه، و (له) اللام حرف جر والهاء ضمير متصل في محل جر بحرف الجر، وهو في محل رفع خبر مقدم، و (الخلق والأمر) الخلق مبتدأ مؤخر، والأمر: الواو حرف عطف والأمر: اسم معطوف على ما قبله مرفوع مثله.

فتركيبة الجملة من حيث الترتيب اللغوي: الخلق والأمر له، فكل أنواع الخلق والأمر: لله عز وجل، فقدم (له) فصار (ألا له الخلق والأمر)، وهذا التقديم له معنى ومفهوم ومقصد فمقصده الحصر والقصر، وفي لغة العرب أساليب متعددة للحصر والقصر، فمنها: تقديم ما حقه التأخير، فتركيب الجملة في لغة العرب أن المبتدأ يكون قبل الخبر، فتقديم الخبر قبل المبتدأ أسلوب صحيح من أساليب اللغة العربية ويصح ذلك، وله فائدة بلاغية وهي: الحصر والقصر.

إذاً: قوله تعالى: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)) نص في التوحيد؛ لأن عناصر التوحيد موجودة فيها وهي أمران: الخلق أولاً، والثاني: الأمر، فمعنى هذه الآية: لا يخلق أي شيء من الأشياء إلا الله عز وجل، فإذا وجدت شخصاً يقول: إن هناك خالقاً غير الله عز وجل فاعلم أنه مشرك.

الأمر الثاني: الأمر، ويعني: ما يأمر به الله عز وجل وهو نوعان: أمر يتعلق بالكون ويسمى الأمر الكوني، وأمر يتعلق بالشرع وهي أوامر يطلب من العباد تنفيذها، وهذا يسمى الأمر الشرعي.

والأمر الكوني القدري موافق لمعنى الخلق، والأمر الشرعي: هو ما أمر الله عز وجل به العباد من الفرائض، والحدود، وأحكام البيع والشراء، وقسمة التركات والمواريث، وفي مجال النكاح والطلاق، وفي مجال القضاء والفصل في الخصومات، وما أمر الله به العباد من العقائد، والآداب، والسياسات، وفي كل أمر من أمور الحياة، فلله عز وجل شريعة متكاملة وتسمى الشريعة، والشيء الذي يجب أن يطبق في حياة المسلمين هو تحكيم الشريعة.

تحكيم الشرعية يعني: تحكيم أوامر الله في كل مجال من مجالات الحياة، كتحكيم أوامر الله في المال، فلا يجوز أخذ المال عن طريق أكل أموال الناس بالباطل، مثل التأمين المحرم، وهو أن يأخذ البنك -مثلاً- من المستفيدين مبلغاً من المال بحيث إنه إذا صار على أحدهم حادث من الحوادث فإنه يعوضه بشروط معينة، وإذا لم يصبه حادث فلا شيء له، والأموال المحرمة ثلاثة: الربا والغرر وأكل أموال الناس بالباطل، ومعنى بالباطل، أي: بالخديعة والاحتيال والنصب والوهم.

وقد يكون هناك أشخاص تصير عندهم حوادث حقيقة ويترتب عليها أشياء أكبر من الشيء الذي دفعوه، فربما أنه دفع خمسمائة وصار عليه حادث كلفهم -مثلاً- ثلاثين ألفاً، فما هو المبرر الشرعي لدفع ثلاثين ألفاً مقابل خمسمائة ريال أو يأخذوا من شخص مثلاً عشرة آلاف ولا يدفع له أي شيء؟ ولهذا فإن شريعة الله عز وجل كاملة وشاملة، فالله عز وجل يقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤] فالأمر الشرعي لله عز وجل، وأهل العلم يشنعون على القوانين الوضعية؛ لأن القوانين الوضعية معناها: إلغاء شريعة الله عز وجل وعدم تطبيق أوامر الله عز وجل ووضعها في الرف، ثم اختراع شرائع جديدة للناس تطبق في دمائهم وفي أموالهم وفي علاقاتهم وفي سياساتهم وفي أي باب من الأبواب، وهذا هو حقيقة الشرك، بل هو شرك في الربوبية، فهذه الآية نموذج ودليل على توحيد الربوبية؛ لأن الربوبية مأخوذة من الرب.

ولو أن إنساناً زعم أنه يخلق النساء فقط، والرجال يخلقهم الله عز وجل، أو أنه خلق الأرض، وأن الله عز وجل خلق السماوات، أو أنه هو الذي خلق القمر وصنعه وأبدعه وجعله بهذا الأسلوب وبهذا الشكل؛ فهذا مشرك بدون أي شك.

ولو أن إنساناً غير الأحكام الشرعية في الدماء، قال الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:٣٨]، والمعنى أي سارق شريف ضعيف حاكم محكوم، وإذا كان غير مكلف هناك أحكام تفصيلية، المهم أن الحكم الشرعي يطبق على كل الناس، فهذا أمر شرعي أمر الله عز وجل به العباد من زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويستمر إلى قيام الساعة، فلو قال شخص: نحن لا نريد أن نقطع يد السارق، حتى وإن انطبقت عليه الأحكام الشرعية والضوابط الشرعية، بل نغرمه، فهذا يعارض أمر الله وشرعه، وليس هو رباً يملك شئون العباد حتى يغير أمر الله ويأتي بأمر من عنده، فالله عز وجل يعلم أن كثيراً من السرق ستقطع أيديهم، ولهذا اعترض أحد المنافقين قديماً من الزنادقة فقال: يد بخمس مئين عسجد وديت م

<<  <  ج: ص:  >  >>