للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ثبات عقيدة أهل السنة وتيقنهم منها]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي رزق الهدى من للهداية يسأل اسمع كلام محقق في قوله لا ينثني عنه ولا يتبدل حب الصحابة كلهم لي مذهب ومودة القربى بها أتوسل ولكلهم قدر علا وفضائل لكنما الصديق منهم أفضل] يقول رحمه الله تعالى: (يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي رزق الهدى من للهداية يسأل) هذا البيت جعله ابن تيمية رحمه الله بداية لهذه المنظومة، فحدد فيه المقصود من هذه المنظومة، وهي بيان مختصر لعقيدته التي هي عقيدة أهل السنة والجماعة.

قوله مذهبي: يعني المذهب في الأصول الذي يذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعقيدته أيضاً: هي عقيدة السلف الصالح رضوان الله عليهم، فـ شيخ الإسلام لم يأتِ بعقيدة جديدة، ولم يأتِ بمذهب جديد، وإنما هو مجدد لمذاهب الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وهو مجدد لمذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة والشافعي ومالك، ومن كان في القرن الثالث والرابع والخامس من علماء السلف إلى زمنه رحمه الله.

قال: (رزق الهدى من للهداية يسأل) فإن أعظم ما يحتاج إليه الإنسان في هذه الدنيا هو الوصول إلى الهداية، والإنسان خلق في هذه الدنيا من أجل أن يهتدي إلى الحق والصدق، ويجتهد في أن يصل إلى العقيدة الصحيحة من بين العقائد الكثيرة الموجودة في هذا الزمان، وهذه العقائد موجودة من قبل زمن ابن تيمية رحمه الله؛ فإن الافتراق ظهر في الأمة من القرن الأول ابتلاء وفتنة، كما أخبر الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:١١٨ - ١١٩]، قال العلماء في قوله: ((وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)) يعني: خلقهم للاختلاف والتفرق ابتلاء وامتحاناً؛ ليرى سبحانه وتعالى من يهتدي إلى الحق، ومن يتنكب الصراط المستقيم.

قال: (اسمع كلام محقق في قوله) محقق بمعنى موقن في قوله، يعني: أنه يعتقد هذه العقيدة، وهو موقن بها غير شاكٍ ولا متردد، فهو إنسان متيقن بما يعتقد، ليس عنده ذلك الاضطراب أو الحيرة التي وقع فيها أهل الفرق الضالة من أهل الكلام وغيرهم، فإن عظماء علماء أهل الكلام الكبار قد أظهروا الحيرة والشك والريب والتعب النفسي من الضياع الفكري الذي وقعوا فيه، فهذا أحد كبار علماء الكلام المشهورين وهو الشهرستاني يقول في كتابه: نهاية الإقدام في علم الكلام: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تروي غليلاً، ولا تشفي عليلاً، فلم أجد مثل الكتاب والسنة، ثم قال: اقرأ في الإثبات قول الله سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، ونحوها، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، ثم قال: نهاية إقدام العقول عقال وآخر سعي العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وهذه الأبيات تنسب أيضاً للفخر الرازي.

والرازي أيضاً جاء هو وأحد المعتزلة إلى أحد العباد، وقالا له: هل أنت موقن بما تعتقد؟ فقال لهم: نعم، قالوا: وعلى أي شيء تستند؟ -فالعابد ليس عنده شبهات عقلية، وليست عنده مشكلات عقلية كما هي موجودة عندهم، فهم يتصورون بسبب الشبه الموجودة عندهم أن العقل مناقض للنصوص الشرعية، ويحاولون أن يجمعوا بين العقل والنقل- فقال لهم هذا العابد: شيء أجده في قلبي لا أستطيع أن أدفعه، فقال المعتزلي: أما أنا فقد أحرقت قلبي الشبهات، فسألزم هذه الطريقة التي أنت عليها، وأما الرازي فإنه اعتذر ببعض المعاذير، وكانت نهايته الحيرة والاضطراب.

فقوله: (اسمع كلام محقق في قوله) يعني: اسمع كلام إنسان موقن بما يعتقد وما يقول.

وهذه السمة واضحة عند أهل السنة ولله الحمد؛ فإن الله عز وجل يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨]، ويقول الله سبحانه وتعالى عن ضد ذلك: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:١٢٤ - ١٢٦]، ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى مصدر هذه العقيدة -وهو القرآن-: (روح)؛ لأن الحياة الحقيقة تتوقف على هذا القرآن، وسماه: (نور)؛ لأن الإنسان يعيش في دياجير الظلام حتى يهتدي بهذا القرآن، قال الله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْر

<<  <  ج: ص:  >  >>