للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنكار الأشاعرة للرؤية حقيقة وإثباتها اسماً

ممن ينفي الرؤية حقيقية متأخرو الأشعرية؛ فإن المتقدمين منهم يثبتون الرؤية اسماً، ويحرفون معناها، مثلما حصل في صفة الكلام، فإنهم يقولون: الله عز جل موصوف بالكلام، أما إذا جاءوا في التفسير فسروه بمعنى مخالف لمعتقد أهل السنة والجماعة المأخوذ من النصوص القرآنية والنبوية.

وهكذا الحال في الرؤية.

قد تطلع على بعض كتب الأشعرية فتجد فيها إثبات الرؤية، وتجد فيها الاستدلال بالأدلة السابقة من القرآن والأحاديث النبوية على رؤية الله سبحانه وتعالى، لكنهم إذا جاءوا يفسرونها قالوا: إنها رؤية علمية، وليست رؤية بصرية.

وهذا أمر لا ينكره المعتزلة القائلون: بأن الإنسان يعرف ربه، لكن يقولون: بأن العبد لا يراه بعينيه، فاتفقوا حينئذ في الحقيقة واختلفوا في الاسم فقط.

ولهذا قال العلماء: من أثبت الرؤية ونفى الجهة فقد أضحك الناس على عقله.

وأساس المشكلة عند الأشعرية في نفي المعنى الشرعي للرؤية هو: أنهم لا يثبتون العلو لله تعالى، وينفونه بحجة أنه يستلزم الجهة، والجهة تستلزم التحيز، والتحيز يستلزم الحدوث، والحدوث لا يمكن أن يوصف به الله سبحانه وتعالى.

وهذا لا شك فهم باطل، فإن العلو ثابت في القرآن وفي السنة وفي فطرة الناس؛ ولهذا أثبته المتقدمون من الأشعرية، بل إن علماء الأئمة الأربعة من المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية يثبتونه، وقد نقل الإمام ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية نصوصاً كثيرة عن علماء المذاهب الأربعة، وعن علماء اللغة والشعر ونحوهم: أنهم يثبتون علو الله سبحانه وتعالى على خلقه.

لما أنكر الأشاعرة علو الله عز وجل على خلقه انقسموا بعد ذلك إلى طائفتين: طائفة قالت: إن الله عز وجل لا داخل العالم ولا خارج العالم، وهؤلاء هم أهل الكلام الذين لم يتأثروا بالتصوف، فعندما يسألون: هل الله في العلو؟ يجيبون: أولاً: لا يجوز لك أن تسأل وتقول: أين هو؟ وثانياً: هو ليس في مكان، ولا يحويه مكان، إذا: هل هو داخل العالم؟ قالوا: لا، لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا بجوار العالم، ولا بمداخل له، وهذا أمر باطل عقلاً وشرعاً.

أما شرعاً فالأدلة كثيرة في إثبات علو الله عز وجل على خلقه، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦]، وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:١]، وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:٢٥٥]، فإن الأعلى والعلي يدل على أنه فوق العالم، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:١٠]، يدل على أنه في السماء، لو كان ليس له جهة -كما يقول الأشعرية- لما قال: (يصعد)، وأنت عندما تدعو ترفع يديك إلى السماء، ولو لم يكن في السماء لما كان هناك فائدة من رفع اليدين.

ثم قولهم: بأنه يحرم السؤال عن الله بأين؛ لأن أين ظرفية مخالف للنص الشرعي، فقد ثبت في صحيح مسلم في قصة الجارية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (أين الله)، وهذا منه صلى الله عليه وسلم يدل على جواز السؤال (بأين) (قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)، وهذا حديث صحيح صريح في هذا الباب.

أما دليل العقل على إبطال قولهم: لا داخل العالم ولا خارج العالم، فواضح جداً؛ حتى إن الإمام أحمد رحمه الله لما أراد أن يبين بطلان نفي العلو عند الجهمية، قال لهم: إما أن يكون خارج العالم أو داخل العالم، فإن قلتم: داخل العالم، وقعتم في الكفر ومناقضة العقل، فإنا لا نراه في العالم، وإن قلتم: خارج العالم، فيلزمكم إثبات العلو، فإن العلو هو: كل ما علا وارتفع عن العالم؛ ولهذا يروى عن بعض السلف -وأظنه الحسن البصري - أنه قال: لو دليت دلواً في الأرض، لسقط على الله.

يقصد: أنك لو بدأت تحفر وتحفر فإنك ستصل إلى مركز هذه الكرة، فإذا أكملت فإنك ستصعد وتصعد حتى تخرق من الجهة الأخرى؛ لأن الكرة الأرضية كرة دائرية، فإذا حفرت هنا حتى خرجت من هنا أصبحت إلى العلو، وإذا حفرت من هنا حتى تخرج من هنا أصبحت إلى العلو، فالعلو محيط بالكرة الأرضية من كل جهة؛ وقد ذكر ابن تيمية في الرسالة العرشية وصف عرش الله عز وجل وأنه كالقبة؛ لأن العالم مثل القبة، وأنه في كل اتجاه يكون العلو، والله عز وجل عال على خلقه، وهو سبحانه وتعالى لا يشبه المخلوقين بأي وجه، وهو الكبير المتعال، والسماوات والأرض هذه التي نراها بهذه العظمة، ما هي إلا حلقة ألقيت في فلاة بالنسبة للكرسي، والكرسي حلقة ألقي في فلاة بالنسبة للعرش الذي استوى عليه الرب سبحانه وتعالى.

أما الصوفية من الأشعرية فإنهم لم يقولوا: إن الله عز وجل لا خارج العالم ولا داخله، بل قالوا: إنه موجود في العالم، وأنه حال في الأشياء؛ لأن المتكلمين من الأشعرية تعودوا على التجريد النظري، أما الصوفية من الأشعرية، فلما كان من طبيعة التعبد التوجه إلى شيء محدود لم يمكنهم أن يقولوا: لا خارج ولا داخل، ولذا قالوا: هو

<<  <  ج: ص:  >  >>