للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تنقيح المناط في أمور العقيدة متفق عليه عند أهل السنة]

القاعدة السادسة: أن تنقيح المناط في أمور العقيدة متفق عليه عند أهل السنة، ولكن قد يقع الخلاف في تحقيق مناط الحكم.

فما معنى تنقيح المناط؟ التنقيح معناه: البحث بدقة، والمناط معناه: العلة، فالبحث بدقة عن علة الحكم هذا أمر متفق عليه بين أهل السنة في قضايا العقيدة، وقضايا العقيدة قضايا إجماعية وليس عند أهل السنة إشكال في تنقيح مناطات الأحكام في العقيدة، فمثلاً: الشرك: هو عبادة غير الله عز وجل، وصرف العبادة لغير الله عز وجل، فعندما تنقح مناط الحكم تجد أنه في الشرك هو: أن أي شخص يصرف العبادة لغير الله عز وجل يقع في الشرك.

ومفهوم العبادة متفق عليه، ومعنى العبادة متحقق، فأثناء التنقيح تجد أن العبادة تستلزم كمال الذل مع المحبة، وبناءً على هذا يكون من السهل التفريق بين العبادة وبين الأمور الطبيعية حتى لو كان القسم واحداً.

فمثلاً: الخوف، يمكن أن نفرق - وهذا أمر متفق عليه عند أهل السنة - بين الخوف الطبيعي العادي وبين خوف التأله الذي يترتب عليه التعبد، فالخوف الطبيعي ليس وارداً في قضايا التوحيد والشرك، مثاله: إنسان يخاف من الأسد بعد أن عقدت أسبابه: فالأسد موجود، وهو حيوان مفترس وليس بينه وبينه حائل فخاف منه، فهذا خوف طبيعي لا يلام عليه الإنسان، ولا يقال: إنه مشرك بناءً على خوفه، بينما الخوف الذي يكون في السر من الأمور الغيبية مثل الخوف من الساحر الذي في مكان بعيد أو الخوف من أعداء الله عز وجل، كل هذا يقدح في العقيدة بحسب درجة الخوف ومدى وصوله إلى العبادة المحضة؛ بحيث يصير شركاً أكبر أو يكون من وسائل العبادة فيكون من الشرك الأصغر، وهكذا في سائر الأبواب.

إذاً: يمكن من خلال البحث والتنقيح عن مناطات الأحكام في العقيدة أن نجد أن أهل السنة في قضايا العقيدة متفقون لا يختلفون فيها، لكن قد يحصل الخلاف في تحقيق مناطه، يعني: تحديد المعين.

مثال ذلك: القضايا المتعلقة بالكفر والشرك بالذات هي أكثر الأمثلة التي يمكن التأكيد عليها، ومن أمثلة ذلك: الحكم بغير ما أنزل الله، فالحكم بغير أنزل الله عند تنقيح مناطه نجد أنه ينقسم إلى قسمين: كفر وغير كفر، فقاضٍ يحكم بما أنزل الله في قضية أو قضيتين مع أن أصل الحكم عنده يكون بالشرع فهذا ليس كفراً، وتبديل الدين وتغييره بتغيير الأحكام وتحويلها وجعلها قانوناً مستقراً ومستمراً على الدوام على كل الناس هذا لا شك أنه كفر أكبر مخرج عن الملة؛ لأنه نازع الله عز وجل في حق من حقوقه، وهو التشريع.

فتنقيح المناط يوصلنا إلى قضية إجماعية في هذا الباب، ولا عبرة بمن يخالف في هذه الحقيقة، فهي حقيقة إجماعية ومتفق عليها، وكثير ممن يخالف في هذا إنما يخالف بسبب ضغط الواقع الصعب الذي تعيشه الأمة الآن.

فتنقيح المناط بالذات من المهم أن يبقى استقراره وثباته دائماً؛ لأن تنقيح مناط الحكم مستمر مع الأمة إلى قيام الساعة.

أما المعينين والدول والأحوال والظروف والجماعات والأشخاص فإنها تذهب وتجيء وتنتهي وتزول، فلا يجوز تغيير الأحكام بناء على الأوضاع الموجودة التي قد تكون أوضاع غير سليمة وغير صحيحة.

وبعد أن عرفنا تنقيح مناط الحكم بغير ما أنزل الله بقي قضية، وهي: تحقيق مناطه في المعينين فلان أو المكان الفلاني أو الجهة الفلانية أو الدولة الفلانية أو الجماعة الفلانية أو المؤسسة الفلانية أياً كانت، فتحقيق المناط فيها له أدواته الشرعية من ضرورة وجود الشروط وانتفاء الموانع، وهنا قد يقع الخلاف بناءً على مدى معرفة الإنسان بواقع المعين، ومدى قيام الحجة عليه، ومدى فهمه لها، ومدى ارتفاع الجهل والإكراه عنه ونحو ذلك من القضايا المتعلقة بوجود الشروط وانتفاء الموانع.

وقد يختلف المعينون فيها، ففلان القريب منه يختلف عن فلان البعيد عنه، وفلان الذي يملك أدوات الفهم والاستيعاب في قضايا مثل هذه يختلف عن شخص آخر لا يملك أدوات الاستيعاب، ولهذا في تحقيق مناطات الأحكام أحياناً قد تدخل الأهواء؛ سواءً أهواء الغلو أو أهواء الخوف والتردد، فأحياناً أهواء الغلو قد تدفع الإنسان إلى دعوى وجود الشروط وانتفاء الموانع في المعينين بشكل مستعجل، بناءً على وجود غلو وهوى في النفس يدفعه إلى ذلك، وأحياناً قد يكون سبب التردد والتخوف أيضاً مؤثراً على وجود الشروط وانتفاء الموانع مع وضوحها.

وعلى كل حال: فإن تطبيق الأحكام ليس مطلوباً من كل أحد، فليس بمطلوب من كل أحد أن يطبق الأحكام على المعينين، فلست مسئولاً يوم القيامة عن الشخص الفلاني هل هو مسلم أو كافر، أو عن الدولة الفلانية، أو عن الجماعة الفلانية، أو عن الجهة الفلانية، إلا إذا استبان، فأنت تعتقد بطلان وخطورة العقائد والأفكار والأمور التي تدخل في نطاق الشرك أو الكفر؛ لأن اعتقاد أن هذا كفر بعد معرفته أمر واجب، لكن اعتقاد أن فلاناً كافر هذا قدر زائد عليه لست مطالباً به، وبالذات في الأمور العامة من أحوال المسلمين، وسيأتي هذا في مسألة ضرورة الشورى فيما يتعلق بأحوال المسلمين العامة.

ومع الأسف أنه يوجد الآن من قد يتكلم في قضية عامة

<<  <  ج: ص:  >  >>