للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قيام الليل أنس بالله وقرب منه]

أيها الأحبة الكرام! يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: إن الناس تجاه الأنس بالله سبحانه وتعالى على أصناف أربعة، فانظر في أي مرتبة أنت: أما المرتبة الأولى: فهم الذين يأنسون بالله في الظاهر وفي الخلوة، أي: يأنسون به في ظاهر الأمر مع أهليهم وأولادهم وزملائهم، في أسواقهم وكلياتهم وأعمالهم، همهم الإسلام والدعوة إلى الله، همهم نشر الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم كذلك إذا اختلوا، فإنهم يتمنون هذه الخلوة، فإذا سنحت لأحدهم أغلق على نفسه الباب، ثم وقف بين يدي الله سبحانه وتعالى متفكراً منادياً داعياً مصلياً ذاكراً قارئاً للقرآن، كل ذلك على انفراد؛ لأنه يشعر أن هذا السلوك تربية تمنحه طاقة هائلة، ودافعاً قوياً لمواصلة مشوار النهار.

وهذه الحالة من الأنس بالله في الليل وفي النهار، في الظاهر وفي الخلوة لا يطيقها إلا الأنبياء والصالحون والصديقون ومن سار على منهجهم واهتدى بهداهم.

وأما المرتبة الثانية: فهم الذين لا يأنسون بالله إلا في الظاهر وأما في الخلوة فلا، ولعل هذا -تجاوزاً- ينطبق علينا أو على بعض منا، فنجد أن ثلث أوقاتنا استماع لمحاضرة أو إلقاء لدرس، أو مشاركة في ندوة، أو جلسة دعوية، أو جلسة مذاكرة، أو حلقة للقرآن، لكن ليس كل الوقت، بل لو طالت المحاضرة قليلاً لأصيب الناس بالتضايق، ولو طال الدرس قليلاً لتململ الإنسان، فإذا كانت جلسة مرح أو لعب أو لهو فإنها مهما طالت فستكون قصيرة، ومهما امتدت فسنقول: ما أسرع دقائقها، أما خلوتنا فالله المستعان، فتجد أن كثيراً من الناس إذا اختلى بكتاب فإنه يقرؤه أي كتاب كان، أما القرآن فلا يطلع عليه إلا نادراً، وإن حدثت منه الخلوة مع الله ذكراً وتفكراً وقياماً وصلاة وغير ذلك فلا تكون إلا على عجل.

وأما الصنف الثالث: فهم الذين يأنسون بالله في الخلوة دون الظاهر، ولعل هذا كذلك -تجاوزاً- ينطبق على بعض الكبار من السن الذين يحرصون على أداء الصلاة مبكرين، فهم يدخلون أول الناس ويخرجون آخر الناس، ويختمون في كل ثلاث أو في كل سبع وربما في كل نصف شهر، وإذا جلسوا ذكروا الله سبحانه وتعالى إن كانوا لوحدهم، لكن في مجالسهم مع أترابهم، ومن يشابههم تجد أن هم الإسلام في قلوبهم وعقلوهم، وذكره على ألسنتهم ضعيف.

أما الصنف الرابع: فهم الذين لا يأنسون بالله لا في الظاهر ولا في الخلوة، وهؤلاء لا يقال عنهم: إنهم فسقة، أو ضائعين، أو منحرفين، بل قد يكونون من أفضل الناس، لكن روتين الحياة العامة يجعله متنقلاً من عمله إلى منزله فيجد أولاده بانتظاره ليتناولوا وجبة الغداء، ثم يرتاح قليلاً، ثم يصلي صلاته، ثم يرجع إلى بيته، ويشرب شيئاً من الشاي مع أهله، ثم يذهب إلى زيارة أهله أو أقربائه بعد المغرب، ثم يرجع إلى بيته ويقرأ جريدة أو مجلة أو غير ذلك، ثم يسمر مع زوجته، ثم ينام انتظاراً لدوام الغد، فهو لم يفعل منكراً بيناً، ولم يفعل خطيئة ظاهرة، ومع ذلك فهو محروم من الأنس بالله.

فسل نفسك أيها الحبيب في أي مرتبة أنت، ثم بعد ذلك اجعل لنفسك همة عالية ترتقي بها إلى المرتبة الأعلى، واجعل المرتبة الأولى التي هي مرتبة الأنبياء والمرسلين هي همتك، فأولئك الذين يأنسون بالله في الظاهر وفي الخلوة.

<<  <  ج: ص:  >  >>