للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الوسائل المعينة على قيام الليل]

قد يقول قائل: أنا أريد أن أقوم الليل وأتمنى ذلك فما هي الوسيلة المعينة على ذلك؟

و

الجواب

أن هناك وسائل كثيرة وعديدة تعين على قيام الليل، يقسمها العلماء إلى قسمين: القسم الأول من هذه الأمور: الأمور الظاهرة.

والقسم الثاني: الأمور الباطنة.

ومعلوم أن قيام الليل فيه مشقة على الإنسان، كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:٦].

إلا أن دراسة هذه الوسائل التي تعين على قيام الليل والأخذ بها سوف ييسر على الإنسان قيام الليل، فنبدأ أولاً بالأسباب الظاهرة المملوكة المحسوسة: السبب الأول: ألا يكثر العبد من الأكل والشرب في المساء فيغلبه النوم، ويصعب عليه القيام، وقد قيل: لا تأكل كثيراً، فتشرب كثيراً، فتنام كثيراً، فتخسر كثيراً، وقال لقمان لابنه وهو ينصحه: يا بني! إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.

وقد قيل: إن أردت أن يصح جسمك، ويقل نومك: فأقلل من الأكل.

ما حالنا اليوم؟ حالنا اليوم جميعاً في المرتبة الثالثة، بل وربما المرتبة الرابعة وربما المرتبة الخامسة، وقد يسأل سائل: كيف؟ وما هي المرتبة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة؟ فأقول: تأمل ولا تشمت إلا بنفسك، سئل أحد الزهاد عن وجبة واحدة في النهار أو في اليوم كله؟ فقال: ذاك طعام الأنبياء، قيل: فاثنتان؟ قال: ذاك طعام الصالحين، قيل: فثلاث؟ قال: ينبغي أن يقدم له أهله معلفاً.

فكلنا أهل معالف وللأسف الشديد، فكيف إذا كانت أربع وجبات أو خمس وجبات كما يفعل بعض الناس اليوم؛ إذ يتناولون وجبة في الصباح، وقبل الظهر شيئاً خفيفاً، وبعد الظهر الغداء، وفي العصر وجبة مع الشاي، وقبل العشاء قهوة وتمر، وبعد العشاء العشاء!! فإذا كنا نأكل أكلاً كثيراً كيف نريد أن نربي أنفسنا وقلوبنا وأجسامنا على قيام الليل! السبب الثاني: ألا تتعب نفسك بشكل دائم، فبعض الناس يمارس الرياضة مثلاً، ولا يمارسها إلا في الليل بعد صلاة العشاء، وقد تكون الرياضة عنيفة وقوية، ومن يمارسها يريد أن يكون رياضياً وهذا أمر حسن، لكن من يفعل ذلك يكسب شيئاً ويخسر آخر، فهو يكسب شيئاً من ناحية الرياضة، ويخسر عندما ينام متعباً ثم لا يقوم الليل، بل وللأسف الشديد قد لا يقوم لصلاة الفجر.

السبب الثالث: ألا يترك الإنسان القيلولة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل).

فإذا استطاع الإنسان أن يقيل فليفعل، فإنه سيكتسب طاقة تعينه على أن يقوم لأداء بعض الصلاة في الليل، فإنك إذا نمت ساعة مثلاً في النهار فستستبدلها بساعة في الليل، وإياك أن تستبدلها بسهر لا فائدة منه إلى الساعات المتأخرة من الليل، بل اجعل نومك المعتاد في الساعة ١٢ مثلاً، أو الساعة ١١، واجعل هذه القيلولة حتى تستيقظ نصف ساعة لتصلي لله سبحانه وتعالى ما شاء الله لك أن تصلي.

السبب الرابع: أن يتجنب الإنسان ارتكاب المعاصي؛ لأن قلب العبد إذا قسا فإنه سيبتعد عن الله، وسيبتعد عن الطاعة، فالمعصية تقول: أختي أختي، والطاعة تقول: أختي أختي، فإنك إذا ارتكبت المعصية وتلتها الأخرى، ثم أتبعتها بالثالثة قسا القلب، وإذا قسا القلب كان أبعد القلوب عن الله سبحانه وتعالى، وكان القيام بالنسبة له شاقاً جداً، وقد كان أحد العلماء يقول: من أحسن في نهاره -أي: بالعمل الصالح- وفق في ليله.

وقد قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد! إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ فقال الحسن له: قيدتك ذنوبك.

فنحن اليوم إذا نمنا فإننا ننام وقد ربطنا بالحبال وبالسلاسل من كل جهة؛ لأن ذنوبنا كثيرة، وقد قيدتنا في كل اتجاه، ولذلك سأل رجل عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه ما لنا لا نستطيع قيام الليل؟ قال: أقعدتكم ذنوبكم.

السبب الخامس: أن يبتعد الإنسان عن التنعم الزائد في الفراش، وفي الأكل وفي الشرب، فإنه إن فعل ذلك فسيدعوه إلى أن يربي نفسه على الزهد والورع، ويربي نفسه على الاقتصار على الأقل الذي يجعله سهل القيام، بسيط النوم، وأنت تلحظ في نفسك هذا، فإنك إذا أكلت ليلة من الليالي أكلة دسمة وأكثرت منها حتى ازداد أكلك عن المعتاد فستجد أنك لا أقول لن تقوم لليل، بل قد لا تقوم حتى لصلاة الفجر، وهذا أمر بين ومجرب.

ولابد هنا أن أشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينام على فراش من أدم حشوه ليف، أي: من جلد مدبوغ حشوه ليف نخل قاس شديد، وليس مثلنا اليوم فإن فراشنا قد يكون وثيراً حتى إذا نام الإنسان اختفى في هذا الفراش لا يكاد يرى من تنعم الفراش ولينه، فكيف يقوم الإنسان لصلاة الليل بعد ذلك؟ ولذلك كان السلف يسعون إلى تخشين فرشهم؛ لأن هذا أدعى لقيامهم.

وقد دخل عمر رضي الله تعالى عنه يوماً على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان نائماً على حصير قد أثر في جنبه الشريف، فتأثر عمر لذلك وبكى، وقال: كسرى وقيصر يتنعمون وأنت يا رسول الله تنام على حصير قد أثر في جنبك؟ فقال عليه السلام جملة طويلة، أقتصر على ما يهمنا هنا قال: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة)، وإنما تكون لنا الآخرة بالقيام، والصلاة بالخشوع، والإكثار من الذكر، فهذا هو حال المصطفى عليه السلام، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون من هؤلاء.

السبب السادس: الابتعاد عن فضول النظر والكلام؛ فإن ذلك يقسي القلب، ويبعده من الرب.

السبب السابع: كثرة ذكر الله سبحانه وتعالى؛ فإن الإنسان كلما أكثر ذكر ربه لان قلبه، ودبت فيه الحياة، وكلما كان القلب حياً كان أقرب إلى الله، وكلما ابتعد الإنسان عن ذكر الله كان قلبه قاسياً، ثم يموت هذا القلب، وأبعد القلوب عن الله القلب القاسي، فكيف بالقلب الميت! فعليك أيها الأخ الحبيب! أن تكثر من ذكر الله، فإذا ركبت السيارة اذكر الله سبحانه وتعالى، وإذا كنت في مجلس اذكر الله سبحانه وتعالى، وكن دائماً ذاكراً لله، فإنك إن فعلت ذلك فستجد أثره في قلبك، ومن ثم ستجد أثر ذلك على سلوكك وحياتك وفي تعاملك مع الناس.

وقد عرفت رجلاً من الصالحين أحسبه كذلك، كان مسافراً فتخطته سيارة وأخطأت عليه خطأ شنيعاً حتى كاد أن يذهب ضحية هذا الخطأ، فذهب وأوقفه وهو غاضب شديد الغضب، وربما الحالة تستوجب أن يأخذ من أخطأ ويضربه، ويتلفظ عليه بكل الألفاظ القذرة، لكن الرجل كان معتاداً على الذكر باستمرار فأخذ بتلابيب السائق الآخر وكان يقول له: الله يغفر لك لم تفعل هذا؟ الله يرحمك لم تفعل هذا؟! وهذا شيء عجيب، وما ذاك إلا لأنه عود نفسه على الذكر فكانت النتيجة هكذا السبب الثامن: أكل المال الحلال والابتعاد عن الحرام، وهذه مسألة سهلة النطق صعبة التطبيق، فكلما كان العبد متحرياً للحلال كان موفقاً، وقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:٥١] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:١٧٢].

ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!).

فإذا كان الإنسان قد أودع ماله في بنك ربوي، أو تعامل بالربا، أو تعامل بالأمور المحرمة بيعاً وشراءً وغصباً وأخذاً وخيانة وغير ذلك ثم قام في الليل البهيم يدعو الله، ويرفع يديه إلى السماء: اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، اللهم اغفر لي وارحمني، فيأتيه الجواب من الله سبحانه وتعالى: لا لبيك ولا سعديك؛ لأن جسده غذاه بالحرام، (وأيما جسد نبت من حرام فالنار أولى به).

فانظر إلى حالك في أكلك وشربك، وإن كنت ولابد فاعلاً فارحم من تحت يدك: أبناءك وبناتك، وأمك وأباك، وزوجتك، فلا تؤكلهم حراماً وإن أكلت حراماً، ولا تجر غيرك إلى النماء من الحرام.

السبب التاسع: التبكير في النوم بعد العشاء؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم: (كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها).

والملاحظ هذه الأيام أن النوم بعد العشاء صار مذمة لا محمدة وللأسف الشديد، وقد كان حال السلف متغيراً عن حالنا، فلو رأى الواحد منا اليوم إنساناً ينام بعد العشاء ربما سخر منه، مع أن هذا الذي ينام بعد العشاء إن لم يكن ممن يقوم الليل فعلى أقل تقدير يكون قد ابتعد عن سهرة قد يكون فيها المنكر من غيبة أو نميمة أو غير ذلك من المنكرات، وقد تكون جلسة مباحة لكن ليس فيها ذكر لله، ومثلها ستكون حسرة على صاحبها يوم القيامة.

السبب العاشر والأخير من الأسباب الظاهرة الحسية: أن نتواصى بيننا بقيام الليل، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:١ - ٣]، فقيام الليل من الحق الذي ينبغي أن نتواصى عليه، وهو طاعة ينبغي أن نتواصى بالصبر عليها، إذ الصبر على طاعة الله نوع من أنواع الصبر؛ لأن الطاعة فيها مشقة، فالشيطان حريص دائماً أن يجعلها شاقة على المسلم، وهو يحاول أن يباعد بينه وبينها، فهو يريد أن يكون معه في نار جهنم، ولذا لابد من المجاهدة والمصابرة والتعب حتى يظفر بالنتيجة المرضية.

أما الأمور الباطنة أيها الأخ المبارك! فإنها أمور متعددة أيضاً، ومن أبرزها: الأول: سلامة القلب عن الصوارف المختلفة كالحقد والحسد والبغضاء، فشأنها أن تجعل القلب قاسياً مهموماً حاقداً، وحينها لا يستطيع القيام بأي صورة من الصور.

الأمر الثاني: لابد أن يكون عند الإنسان خوف من

<<  <  ج: ص:  >  >>