للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

نقصاً رهيباً في أجهزتها، إذ لما لم تعد مصادر المواد الأولية كافية، دارت محركات لتطحن الهواء، وتوقفت محركات أخرى أو كادت، فلم تعد تشبع إنتاجاً منهوماً لا يشبع، لقد تفجرت ضوضاء الآلات بين أيدي صانعيها؛ فبعد سنوات أربع غمرت بملايين القتلى وأحداث الهدم والتخريب، ظفرت الحياة في أوربا بلون من الاستقرار، فاستأنفت المحركات دوراتها المنتظمة، لكن هذا الانفصال الذي حدث عام ١٩١٤ - ١٩١٨ لم يسكب عبرته في الضمائر المفتونة بسحر المال، السكرى بالشمبانيا، فقد أخفى الرخاء الظاهر المؤقت عنها لذعة الواقع.

ومع ذلك ففي عام ١٩٣٠، سمع الناس من جديد صوت احتكاك رهيب في أجزاء الآلة، وكشفت الأزمة التي بدأت تستحكم عن السرطان الأخلاقي الذي يلتهم الحضارة، ويدلل على أن النهضة الفنية وحدها عاجزة برسومها ومعادلاتها عن حل المشكلة الإنسانية.

لقد توقفت الآلات عن الدوران والكتابة وحساب ساعات العمل والأرباح، وطال صف العاطلين أمام صناديق البطالة، وسكن البؤس منازل الناس.

ولكن سخرية مؤسية خيمت على هذا البؤس، فلأول مرة في التاريخ الإنساني تصبح علة البؤس وفرة الإنتاج لا قلة الثروات، وتلك أمارة عبقرة القرن العشرين، فلقد استطاعت بعملها أن تجعل من أسباب الرفاهية عوامل فاقة وشقاء. فأين إذن مكان الداء .. ؟ هل هو في تفوق المنحنى البياني للإنتاج على منحنى الاستهلاك .. ؟ هذه مسألة صبيانية!! فالفنيون الذين يلمون بمعرفة الحساب يعرفون كيف يصححون المسائل، ويعيدون المنحنيات إلى مستوى معين، وبذلك يكون الحل رياضياً يتلخص في إعدام الفائض، فهذا أبسط شيء، وبهذه الصورة تم إحراق القطن والقمح والبن، على الرغم من أن شعوباً كثيرة لا تجد أثراً منها في بلادها. وهكذا وجدنا أن الحضارة التي أبدعت نظرية

<<  <   >  >>