للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

إلى ظاهرة (الحضارة) منفصلة عن ظاهرة (الانحطاط)؛ وإن العالم الإسلامي لفي مسيس الحاجة في هذه النقطة إلى أفكار واضحة تهدي سعيه نحو النهضة ولهذا فإن مما يهمنا في المقام الأول أن نتأمل الأسباب البعيدة التي حتمت تقهقره وانحطاطه.

فلقد عرف هذا العالم أول انفصال في تاريخه في معركة صفين عام ٣٨ للهجرة، إذ كان يحمل بين جنبيه بعد قليل من سنوات ميلاده تعارضاً داخلياً؛ كانت (حمية الجاهلية) تصطرع مع (الروح القرآني)، فجاء معاوية، رضي الله عنه، فحطم ذلك البناء الذي قام لكي يعيش، ربما إلى الأبد، بفضل ما ضُمِّنه من توازن بين عنصر الروح وعنصر الزمن.

ومنذ ذلك الانفصال الأول- الذي سنعود إليه فيما بعد- فقد العالم الإسلامي توازنه الأولي، على الرغم من بقاء الفرد المسلم متمكساً في قرارة نفسه بعقيدته التي نبض بها قلبه المؤمن. ومع ذلك فنحن ندين لتلك (الحضارة) المنحرفة التي ازدهرت في دمشق في ظل الأمو ين باكتشاف النظام المئوي، وتطبيق المنهج التجريبي في الطب، واستخدام فكرة الزمن الرياضية (١)، وهذه هي المعالم الأولى للفكر الصناعي.

وربما اتضح لنا ذات يوم أن (تفاحة نيوتن) التي اكتشف بها عالم الفلك قوة الجاذبية الأرضية، ذات اتصال معين بما قام به (ابنا موسى) من أعمال علمية (٢). ومع ذلك فإن هذه الحضارة ليست- من الناحية العضويه التاريخية


(١) كان العرب أول من استخدم نظام (الساعات المتساوية)، وكان الإغريق والرومان قبلهم يقسمون الزمن قسمين غير متساويين؛ اثنتا عشرة ساعة للنهار، واثنتا عشرة مختلفة عنها في الليل.
(٢) موسى بن شاكر تعلم التنجيم والفلك، ثم مات وأبناؤه ثلاثة صغار، هم محمد وأحمد والحسن فجعلوا في بيت الحكمة حتى نبغوا في العلوم الهندسية والحيل والحركات والموسيقا والنجوم، وهم الذين تنسب إليهم (حيل بني موسى)، وقد كانوا مقربين من المأمون.
راجع (وفيات الأعيان)، و (والأعلام) للزركلي. (المترحم)

<<  <   >  >>