للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

انهار البناء الاجتماعي، إذ هو لا يقوى على البقاء بمقومات الفن والعلم والعقل فحسب، لأن الروح، والروح وحده، هو الذي يتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فحيثما فقد الروح سقطت الحضارة وانحطت، لأن من يفقد القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوي بتأثير جاذبية الأرض.

وعندما يبلغ مجتمع ما هذه المرحلة، أي عندما تكف الرياح التي منحته الدفعة الأولى عن تحريكه، تكون نهاية (دورة) وهجرة (حضارة) إلى بقعة أخرى، تبدأ فيها دورة جديدة، طبقاً لتركيب عضوي تاريخي جديد.

وفي البقعة المهجورة يفقد العلم معناه كله، فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل، إذ يفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم، وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة و (قوة الإيمان).

فالعقل يختفي لأن آثاره تتبدد في وسط لا يستطيع أن يفهمها أو يستخدمها، ومن هذا الوجه يبدو أن أفكار ابن خلدون قد جاءت إما مبكرة أو متأخرة عن أوانها: فلم تستطع أن تنطبع في العبقرية الإسلامية التي فقدت مرونتها الخاصة، ومقدرتها على التقدم والتجدد. حتى إذا وهنت الدفعة القرآنية توقف العالم الإسلامي، كما يتوقف المحرك عندما يستنزف آخر قطرة من الوقود. وما كان لأي معوض زمني أن يقوم خلال التاريخ مقام المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية، ألا وهو: (الإيمان). ولذا لم تستطع (النهضة التيمورية) التي ازدهرت في القرن الرابع عشر حول مغاني سمرقند، أو الإمبراطورية العثمانية، كلاهما أن تمنح العالم الإسلامي (حركة) لم يعد هو في ذاته يملك مصدرها.

لقد بلغت عوامل التعارض الداخلية قمتها، وانتهت إلى وعدها المحتوم، وهو تمزق عالم واهن، وظهور مجتمع جديد ذي معالم وخصائص واتجاهات جديدة، ف كانت تلك مرحلة الانحطاط، إذ لم يعد الإنسان والتراب والوقت عوامل حضارة، بل أضحت عناصر خامدة ليس لها فيما بينها صلة مبدعة.

<<  <   >  >>