للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

انْفَرَدَ، لأَنَّ الثَّلاثَةَ الأَعْوَامِ الَّتِي فَتَرَ عَنْهُ فِيهَا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ بَعْدَ أَنْ نُبِّئَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، ثُمَّ فَتَرَ عَنْهُ الْوَحْيُ، حَتَّى كَانَ يَغْدُو إِلَى رُؤوسِ الِجَبالِ لِيَتَردَّى مِنْهَا حَزَنًا عَلَى مَا كَانَ فَقَدَ مِنْ الْوَحْيِ، حَتَّى كَانَ يَبْدُو لَهُ جِبْرِيلُ فَيَقُولُ لُهُ: أَنْتَ النَّبِيُّ حَقًّا, ثُمَّ نَزَلَ عَلَيهِ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ}، فَأُمِرَ بِالرِّسَالَةِ، ثُمَّ لَمْ يَفْتُرْ عَنْهُ الْوَحِيُ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ تَتَابَعَ، فَلِذَلِكَ اَشْتَرَطَتْ فِيهَ وَابْنُ عَبَّاسٍ: ثَلاثَ عَشْرَةَ بِمَكَّةّ (عَشْرَة) (١) يَنْزِلُ عَلَيهِ الْوَحْيُ، أَيْ أَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ بَقِيَ ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهَا الْوَحْيُ، فَكَانَتْ فَتْرَةً بَيْنَ نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ مِنْ ثَلاثِ سِنينَ.

وَحَدِيثُ أَنَسٍ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ، لَمْ يَرْوِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَشْهَدْ هُوَ مَقَامَهُ بِمَكَّةِ كَمَا شَهِدَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَيُخْبِرُ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ، وَلَكِنْ سَمِعَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَذَهَبَ عَنْهُ مَعْنَى يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، أَوْ عَلَى الرَّاوِي لِحَدِيثِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ لَهُ مِنْ العَدَدِ أَكْثَر مِن سِتِّينَ، فَقَالَ بِذَلكَ عَنْهُ الْمُحَدِّثُ، فَالله أَعَلَمُ مِمَّنْ الاخْتِصَارُ فِي ذَلِكَ أَوْ التَّقْصِيرُ.

وَحَدِيثُ أَهْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ النِّسَاءِ الْمُرَاعِينَ لِحَرَكَاتِه، وَالمُتَحَفِّظِينَ لِأُمُورِهِ، وَالضَّابِطِينَ لَهَا، ... , أَوْلَى مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْ، وَاللهُ أَعْلَمُ (٢).


(١) زيادة لا بد منها لتصحيح مساق المهلب.
(٢) جَمْعُ الْمُهَلَّبِ بَيْن الأَحَادِيثِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ:
الأَوَّل: اعْتِمادُ أنَّ فَترةَ الوَحْيِ هِي ثَلاثُ سِنينَ، وَهْي الْمُدَّة بَيْن التَّنَبُّيءِ وَالإِرْسَالِ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَقَعَ فِي تَارِيخ أَحْمَد بْن حَنْبَل عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ مُدَّة فَتْرَة الْوَحْي كَانَتْ ثَلَاث سِنِينَ، وَبِهِ جَزَمَ اِبْن إِسْحَاق، وَحَكَى الْبَيْهَقِيّ أَنَّ مُدَّة الرُّؤْيَا كَانَتْ سِتَّة أَشْهُر، وَعَلَى هَذَا فَابْتِدَاء النُّبُوَّة بِالرُّؤْيَا وَقَعَ مِنْ شَهْر مَوْلِده وَهُوَ رَبِيع الْأَوَّل بَعْد إِكْمَاله أَرْبَعِينَ سَنَة، وَابْتِدَاء وَحْي الْيَقَظَة وَقَعَ فِي رَمَضَان.
وَلَيْسَ الْمُرَاد بِفَتْرَةِ الْوَحْي الْمُقَدَّرَة بِثَلَاثِ سِنِينَ وَهِيَ مَا بَيْن نُزُول " اِقْرَأْ " وَ " يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر " عَدَم مَجِيء جِبْرِيل إِلَيْهِ، بَلْ تَأَخُّر نُزُول الْقُرْآن فَقَطْ.
ثُمَّ رَاجَعْت الْمَنْقُول عَنْ الشَّعْبِيِّ مِنْ تَارِيخ الْإِمَام أَحْمَد، وَلَفْظه مِنْ طَرِيق دَاوُدَ بْن أبِي هِنْد عَنْ الشَّعْبِيِّ: أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّة وَهُوَ اِبْن أَرْبَعِينَ سَنَة فَقُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيل ثَلَاث سِنِينَ فَكَانَ يُعَلِّمهُ الْكَلِمَة وَالشَّيْء، وَلَمْ يَنْزِل عَلَيْهِ الْقُرْآن عَلَى لِسَانه فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاث سِنِينَ قُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيل، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآن عَلَى لِسَانه عِشْرِينَ سَنَة.
وَأَخْرَجَهُ اِبْن أبِي خَيْثَمَةَ مُخْتَصَرًا عَنْ دَاوُدَ بِلَفْظِ: بُعِثَ لِأَرْبَعِينَ، وَوُكِّلَ بِهِ إِسْرَافِيل ثَلَاث سِنِينَ، ثُمَّ وُكِّلَ بِهِ جِبْرِيل. فَعَلَى هَذَا فَيَحْسُن بِهَذَا الْمُرْسَل إِنْ ثَبَتَ الْجَمْع بَيْن الْقَوْلَيْنِ فِي قَدْر إِقَامَته بِمَكَّةَ بَعْد الْبَعْثَة، فَقَدْ قِيلَ ثَلَاث عَشْرَة، وَقِيلَ عَشْر، وَلَا يَتَعَلَّق ذَلِكَ بِقَدْرِ مُدَّة الْفَتْرَة، وَاَللَّه أَعْلَم.

قَالَ: وَأَخَذَ السُّهَيْلِيّ هَذِهِ الرِّوَايَة فَجَمَعَ بِهَا الْمُخْتَلِف فِي مُكْثه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة، فَإِنَّهُ قَالَ: جَاءَ فِي بَعْض الرِّوَايَات الْمُسْنَدَة أَنَّ مُدَّة الْفَتْرَة سَنَتَانِ وَنِصْف، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَنَّ مُدَّة الرُّؤْيَا سِتَّة أَشْهُر، فَمَنْ قَالَ مَكَثَ عَشْر سِنِينَ حَذَفَ مُدَّة الرُّؤْيَا وَالْفَتْرَة، وَمَنْ قَالَ ثَلَاث عَشْرَة أَضَافَهُمَا. وَهَذَا الَّذِي اِعْتَمَدَهُ السُّهَيْلِيّ مِنْ الِاحْتِجَاج بِمُرْسَلِ الشَّعْبِيّ لَا يَثْبُت، وَقَدْ عَارَضَهُ مَا جَاءَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ مُدَّة الْفَتْرَة الْمَذْكُورَة كَانَتْ أَيَّامًا أهـ.
وَهَذَا الَّذِي حَكَاُه السُّهَيْلِيُّ سَبَقَهُ إِلَيْهِ الْمُهَلَّبُ كَمَا تَرَى، إِلَاّ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّة الْمَزعُومة في فَتْرَة الْوَحْيِ لا تَثْبُت، وَالله أَعلمُ.
الثَّاني: عَمَدَ الْمَهَلَّبُ إِلى التَّرْجِيحِ بَيْنَ الرِّوَاياتِ، مُقَدِّمًا رِوَايةَ آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ الشُّرَّاحُ مَا فِي ذَلِكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَلِلاسْتِزَادَة: رَاجِعْ الروض الأنف ١/ ٤٢٠، سبيل الهدى والرشاد ٢/ ٢٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>