للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الخامس: وقوع بعض هذه الأمة في الشرك]

لقد صدق الرسول الأمين الحريص على حفظ إيمان المؤمنين حينما قال: ((الشرك أخفى في أمتي من دبيب الذر على الصفا ... )) (١). لقد خفى بعض أنواع الشرك على كثير من العلماء حيث وقعوا فيه، قال صاحب الدين الخالص: (ومن أنواع الشرك أشياء ما عرفها الصحابة إلا بعد سنين، فمن أنت حتى تعرفه بغير تعلم. وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: ١٩]، وقال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ [الزُّمر: ٦٥]، فإذا كان هذا في حق سيد الرسل وخاتمهم، فما ظنك بغيره من الناس؟ ...

وقال إبراهيم ... : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم: ٣٥]، فإذا كان أبو الأنبياء يخاف على نفسه وعلى بنيه الأنبياء فما ترجوه في غيره وغيرهم من آحاد الناس الذين ليسوا بأنبياء؟ ... وحيث إن الشرك أخفى من دبيب النمل ابتلي به بعض من لم يتفطن له، وأفصح به في مقالاته، على جهل منه ... ) (٢).

حتى بعض العلماء مبتلون في الوقوع في بعض أنواع الشرك؛ لخفائها وعدم تصور حقيقة الشرك التي بعث الرسل لأجلها، ولعل بعضهم كان لديهم حسن نية في بعض أقوالهم وأعمالهم التي شابهت الشرك، ولكن كما قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: (وكم من مريد للخير لن يصيبه) (٣).

ثم إن هؤلاء القوم الذين سأذكرهم فيما يلي: لا أقول إنهم مشركون، فإن الحكم على العموم سهل وميسر في كثير من القضايا دون الحكم بالتعيين، فإنه ربما يوجد المقتضي للحكم على أحد بالشرك أو الكفر، ولكن يمنع من الحكم عليه فوات شرط من الشروط أو انتفاء مانع من الموانع، فمثلاً إذا كان لدى أي مسلم شبهة في كون بعض أنواع من التصرفات شركاً فإنه تزال عنه الشبهة أولاً، وتقام عليه الحجة ثانياً، وقبل هذا لا يحكم عليه بالشرك أو الكفر أبداً.

قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين: أحد علماء نجد الأعلام: (والذي نقوله في ذلك: إن من مات من أهل الشرك قبل بلوغ ... الدعوة إليه، فالذي يحكم عليه إذا كان معروفاً بفعل الشرك ويدين به، ومات على ذلك فظاهره أنه مات على الكفر، فلا يدعى له ولا يضحى له، ولا يتصدق عنه. وأما حقيقة أمره فإلى الله تعالى، فإن كانت قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله، وأما من لا نعلم حاله في حال حياته، ولا ندري ما مات عليه، فإنا لا نحكم بكفره، وأمره إلى الله) (٤).

وقال الإمام المجدد – الشيخ محمد بن عبد الوهاب -: (القصة تفيد أن المسلم – بل العالم – قد يقع في أنواع من الشرك وهو لا يدري عنها، فتفيد لزوم التعلم والتحرز، ... وتفيد أيضاً: أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كذب هو لا يدري، فنبه على ذلك فتاب من ساعته، أنه لا يكفر ... ) (٥).


(١) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (٢/ ٣١٩). وأشار المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (٤/ ٨٧) إلى أن -إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما.
(٢) ((الدين الخالص)) (١/ ١٣٨ - ١٤١)، مختصراً.
(٣) رواه الدارمي (١/ ٧٩) (٢٠٤). وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (٥/ ١١): إسناده صحيح.
(٤) ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (٤/ ٨٣٥).
(٥) ابن عبد الوهاب: ((كشف الشبهات)) (ص: ٤٥، ٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>