للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثالثاً: آثار التبرك الممنوع

لاشك أن التبرك الممنوع يفضي إلى شرور كثيرة، اعتقادية وعملية، وإلى مفاسد عظيمة، دينية ودنيوية، فله آثار سيئة وخطيرة.

وسأتكلم عن أهم هذه الآثار بالتفصيل، مبيناً كيفية حصول كل أثر منها، مع الاستشهاد بنماذج توضح ذلك.

أولا: الشرك:

من آثار التبرك الممنوع: الشرك، والمقصود به الشرك الأكبر.

وهو أعظم الآثار وأشدها خطراً، كيف لا وهو أكبر الكبائر، يخرج من ملة الإسلام، ويحبط جميع الأعمال، ويوجب الخلود في النار لمن مات عليه، وفيه تنقص لله رب العالمين.

ولهذا بعث الله تعالى رسله من أجل إفراده بالعبادة بجميع أنواعها، وترك عبادة ما سواه، كما قال عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: ٣٦].

أما كيف يوصل التبرك الممنوع إلى الشرك؟ فإن ذلك يحصل من إحدى حالتين:

الأولى: أن يكون التبرك الممنوع في حد ذاته شركاً.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك: التبرك بالأموات – من الأنبياء والصالحين وغيرهم – في دعائهم لقضاء الحاجات الدينية أو الدنيوية، وتفريج الكربات والاستغاثة بهم، والتقرب إليهم بالذبح أو النذر لهم، والطواف على قبورهم.

فهذا ونحوه من الشرك الأكبر، لأنهم قد اعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقد إلا في الله، فأنزلوهم منزلة الربوبية، أو صرفوا لهم من العبادات ما لا يجوز أن يصرف إلا لله تبارك وتعالى، وهذا بسبب المبالغة في تعظيمهم، والافتتان فيهم، والتعلق بهم.

ووصل الأمر في اعتقاد بعض المشركين بأصحاب القبور إلى أن قالوا: إن البلاء يندفع عن أهل البلد بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين.

وكل هذه الأمور الشركية تفعل باسم التبرك، وأحياناً باسم التوسل والتشفع.

الحالة الثانية: أن يؤدي التبرك الممنوع إلى الشرك، فيكون التبرك الممنوع من وسائله، ويكون الشرك من نتائج التبرك الممنوع ومن آثاره.

ولهذا حصل المنع من بعض أنواع التبرك سداً للذريعة إلى الشرك، وخوفاً من الوقوع فيه.

ومن الأمثلة على ذلك النهي عن الصلاة عند القبور، أو بناء المساجد أو القباب عليها، أو الدعاء عندها، ونحو ذلك من المظاهر والمشاهد مما يراد به تعظيم أصحابها.

ويلحق بذلك: التبرك بأمكنة وآثار الأنبياء والصالحين، وتعظيمها وتقديسها.

فإن هذه الأمور ونحوها من أعظم الذرائع والأسباب المؤدية إلى وقوع الشرك بأصحاب القبور والآثار في وقت من الأوقات مع تطاول الأيام.

وقد كان أصل حصول الشرك وعبادة الأصنام في الأرض بسبب تعظيم الموتى الصالحين.

روى ابن جرير الطبري رحمه الله عن بعض السلف في تفسيره لقوله تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [نوح: ٢٣ - ٢٤] أن هذه أسماء رجال صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا جاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر, فعبدوهم. وروى ابن جرير أن هذه الأصنام كانت تعبد في زمان نوح عليه السلام، ثم اتخذها العرب بعد ذلك (١).

وأيضا فإن (اللات) التي هي من أكبر أوثان العرب في الجاهلية، كان سبب عبادتهم تعظيم قبر رجل صالح والعكوف عليه (٢).

وبهذا تبين أن سبب عبادة الأصنام هو المبالغة في تعظيم الصالحين.


(١) ((تفسير الطبري)) (٢٩/ ٩٨، ٩٩) وانظر: ((صحيح البخاري)) (٦/ ٧٣٦) كتاب التفسير، تفسير سورة نوح.
(٢) انظر: ((تفسير الطبري)) (٢٧/ ٥٨، ٥٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>