للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تمهيد: وقوع التحريف في الكتب المتقدمة على القرآن]

التحريف لغة: التغيير والتبديل، وتحريف الكلام عن مواضعه: تغييره (١).

قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: (التحريف: الإمالة، وتحريف الكلام: أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين) (٢).

وقد بين ابن القيم رحمه الله كيفية التحريف في الكتب السابقة كما بينها الله عز وجل في القرآن الكريم بقوله: (وأما التحريف فقد أخبر سبحانه عنهم في مواضع متعددة، وكذلك لي اللسان بالكتاب ليحسبه السامع منه وما هو منه. فهذه خمسة أمور: أحدها: لبس الحق بالباطل، وهو خلطه به بحيث لا يتميز الحق من الباطل.

الثاني: كتمان الحق.

الثالث: إخفاؤه، وهو قريب من كتمانه.

الرابع: تحريف الكلم عن مواضعه، وهو نوعان: تحريف لفظه، وتحريف معناه.

الخامس: لي اللسان به، ليلبس على السامع اللفظ المنزل بغيره) (٣).

وقد اختلفت أقوال الناس في وقوع التحريف في الكتب السابقة على ثلاثة أقوال (٤).

القول الأول: زعمت طائفة أنها بدلت كلها بجميع لغاتها، ومن هؤلاء من أسرف حتى قال: (إنه لا حرمة لها، وجوز الاستجمار بها من البول).

وهذا القول باطل لا يقوله أحد من المسلمين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وهذا مما لا يقوله المسلمون، ولكن قد يقول بعضهم: إنه حرف بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ألفاظ بعض النسخ، فإن الجمهور الذين يقولون: إن بعض ألفاظها حرفت، منهم من يقول: كان من قبل المبعث، ومنهم من يقول: كان بعده، ومنهم من يثبت الأمرين أو يجوزهما، ولكن لا يقول: إنه حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة في مشارق الأرض ومغاربها) (٥).

القول الثاني: أن التبديل والتغيير وقع في المعاني لا في الألفاظ.

وإلى هذا القول ذهب الإمام البخاري (٦) رحمه الله، واختاره الرازي في تفسيره (٧).

وهذا القول لا يسلم له بإطلاق، بل لابد من التفصيل في ذلك.

فأما القول: بأن التحريف قد وقع في معاني تلك الكتب؛ فهذا أمر مسلم به، وهو ما حكى عليه شيخ الإسلام رحمه الله الإجماع ... بل إن هذا القول يقر به عامة اليهود والنصارى (٨).

وأما القول بعدم التحريف في ألفاظها فلا يسلم بذلك؛ لأنه قد وجد فيها من الألفاظ ما لا يجوز أن يكون من كلام الله عز وجل، إضافة إلى ما فيها من التناقض والتضارب في نصوصها، فلو كان وحياً من عند الله لما وجد فيها هذا التناقض والتضارب، وقد ذكر ابن حزم رحمه الله في (كتاب الفصل) كثيراً من هذه التناقضات الظاهرة، والتي تؤكد وقوع التحريف في ألفاظها.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (تحريفهم المعاني لا ينكر؛ بل هو موجود عندهم بكثرة ... ) (٩).

القول الثالث: أن التحريف قد وقع في اليسير منها، ولكن أكثرها باق على ما أنزل عليه.

وقد رجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (١٠).

وقد تكفل الله عز وجل بحفظ كتابه العزيز، أما ما سبقه من الكتب فقد استحفظها جل جلاله الربانيين والأحبار؛ فأحدثوا فيها كثيراً من التحريف والتغيير والتبديل، كما أخبرنا الله عنهم في أكثر من موضع من القرآن الكريم.

نص الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام، مما سبق يتضح أن التحريف في الكتب السابقة على قسمين:

الأول: التحريف في ألفاظها، وهذا قد وقع فيه الخلاف ...


(١) ((مختار الصحاح)) (ص: ١٣١).
(٢) ((المفردات في غريب القرآن)) (ص: ١٢١).
(٣) ((هداية الحيارى)) (ص: ٤٨).
(٤) انظر: ((الجواب الصحيح)) (٢/ ٤١٨ - ٤٢٧)، و ((إغاثة اللفهان)) (٢/ ٣٥١ - ٣٥٤)، و ((فتح القدير)) (١٥/ ٥٠٥).
(٥) ((الجواب الصحيح)) (٢/ ٤١٩).
(٦) ((فتح الباري)) (١٥/ ٥٠٣).
(٧) ((التفسير الكبير)) (٢/ ١٢٣).
(٨) انظر: ((الجواب الصحيح)) (٢/ ٤٠٧).
(٩) ((فتح الباري)) (١٥/ ٥٠٥).
(١٠) ((الجواب الصحيح)) (٢/ ٤٢٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>