للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الخامس: عذاب الميت ببكاء الحي]

((عندما طُعِن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه صهيب يبكي، يقول: وا أخاه، واصاحباه، فقال عمر رضي الله عنه: يا صهيب أتبكي عليَّ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الميت يُعَذَّب ببعض بكاء أهله عليه)) (١). وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال هذا الحديث، ففي (صحيح البخاري) ((أن ابن عباس ذكر لعائشة ما قاله عمر بعد وفاته، فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، حسبكم القرآن وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: ١٨])) (٢)، وقد أولت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث أكثر من تأويل، ورد ذلك عنها في الصحاح والسنن (٣).

وها هنا أمران: الأول هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث؟ قال القرطبي: (إنكار عائشة ذلك، وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً، ولم يسمع بعضاً بعيد، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح) (٤).

الثاني: كيف يعذب ببكاء أهله عليه، وليس ذلك من فعله، والله يقول: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: ١٨].

للعلماء في ذلك أجوبة أحسنها ما قاله البخاري في ترجمة الباب الذي وضع الحديث تحته، قال رحمه الله تعالى: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته) لقول الله تعالى: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم: ٦]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته)) (٥) فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: ١٨] وممن ذهب هذا المذهب الترمذي رحمه الله، فإنه روى حديث عمر رضي الله عنه بلفظ: ((الميت يعذب ببكاء أهله عليه)) (٦) ثم قال: (قال أبو عيسى (هو الترمذي): حديث عمر حديث حسن صحيح، وقد كره قوم من أهل العلم البكاء على الميت، قالوا: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وذهبوا إلى هذا الحديث، وقال ابن المبارك: أرجو إن كان ينهاهم في حياته، أن لا يكون عليه من ذلك شيء) (٧). وهذا الفقه للحديث هو مذهب القرطبي رضي الله عنه، فإنه قال: (قال بعض العلماء أو أكثرهم: إنما يعذب الميت ببكاء الحي إذا كان البكاء من سنة الميت واختياره، كما قال:

إذ أنا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبد

وكذلك إذا وصى به) (٨).

(وقد كان النواح ولطم الخدود وشق الجيوب من شأن أهل الجاهلية، وكانوا يوصون أهاليهم بالبكاء، والنوح عليهم، وإشاعة النعي في الأحياء، وكان ذلك مشهوراً من مذاهبهم، وموجوداً في أشعارهم كثيراً، فالميت تلزمه العقوبة في ذلك لما تقدم إليهم في وقت حياته) كذا قال ابن الأثير (٩).


(١) رواه البخاري (١٢٨٦)، ومسلم (٩٢٧).
(٢) رواه البخاري (١٢٨٦).
(٣) انظر: ((فتح الباري)) (٣/ ١٥٢).
(٤) انظر: ((فتح الباري)) (٣/ ١٥٤).
(٥) رواه البخاري (٨٩٣) مسندا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(٦) رواه الترمذي (١٠٠٢). وقال: حديث عمر حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(٧) ((سنن الترمذي)) (٣/ ٣٢٦).
(٨) ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (ص: ١٠٢).
(٩) ((جامع الأصول في أحاديث الرسول)) (ص: ١٠٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>