للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الرابع: شبهات الذين زعموا أن الروح غير مخلوقة]

الذين قالوا: إن الروح غير مخلوقة احتجوا بمثل قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: ٨٥]، والجواب عن هذا من وجوه: الأول: أن الروح هنا ليست روح الآدمي، وإنما هو اسم ملك، كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا [النبأ: ٣٨]، وقال: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج: ٤]، وقال: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم [القدر: ٤] وهذا قول معروف مشهور عند علماء السلف في تفسير الآية (١).

الثاني: وإذا قلنا: إن المراد بالروح هنا روح الآدمي – كما هو قول جمع من علماء السلف في الآية – فليس فيها ما يدل على أن الروح غير مخلوقة، وأنها جزء من ذات الله تعالى كما يقال هذه الخرقة من هذا الثواب، بل المراد أنها تنسب إلى الله، لأنها بأمره تكونت، أو لأنها بكلمته كانت، والأمر في القرآن يذكر ويراد به المصدر تارة، ويراد به المفعول تارة أخرى، وهو المأمور به، كقوله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: ١] أي: المأمور به، ويمكن أن يقال أيضاً: إن لفظة مِنْ في قوله: مِنْ أَمْرِ رَبِّي لابتداء الغاية، ومعلوم أن (من) تأتي لبيان الجنس، كقولهم: باب من حديد، وتأتي لابتداء الغاية، كقولهم: خرجت من مكة، فقوله: مِنْ أَمْرِ رَبِّي ليس نصاً في أن الروح بعض الأمر ومن جنسه، بل هي لابتداء الغاية إذ كونت بالأمر، وصدرت عنه، وهذا معنى جواب الإمام أحمد في قوله: وَرُوحٌ مِّنْهُ حيث قال: وَرُوحٌ مِّنْهُ يقول: من أمره كان الروح، كقوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [الجاثية: ١٣]، ونظير هذا أيضاً قوله تعالى: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ [النحل: ٥٣]. فإذا كانت المسخرات والنعم من الله، ولم تكن بعض ذاته، بل منه صدرت، لم يجب أن يكون معنى قوله في المسيح وَرُوحٌ مِّنْهُ، أنها بعض ذاته (٢).

الشبهة الثانية: قوله تعالى في آدم: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي [الحجر: ٢٩]، وقوله في عيسى: فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا [الأنبياء: ٩١]، قالوا: فقد أضاف الله الروح إلى نفسه، وقد أجاب عن هذه الشبهة شارح الطحاوية فقال: (ينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله تعالى نوعان: صفات لا تقوم بأنفسها، كالعلم والقدرة، والكلام والسمع والبصر، فهذه إضافة صفة إلى موصوف بها، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له، وكذا وجهه ويده سبحانه.

والثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه، كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح كقوله: نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس: ١٣] وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان: ١] وقوله: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ... [الحج: ٢٦] فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، لكن إضافة تقتضي تخصيصاً وتشريفاً، يتميز بها المضاف إلى غيره) (٣). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص ٩٧


(١) ((تفسير الطبري)) (٢٤/ ١٧٦).
(٢) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (٤/ ٢٢٦ - ٢٣٥).
(٣) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: ٤٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>