للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثاني: عدم كفاية الإقرار بالربوبية للبراءة من الشرك]

إن توحيد الربوبية هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة؛ ولذا فإنه لا يصح إيمان أحد, ولا يتحقق توحيده إلا إذا وحد الله في ربوبيته، لكن هذا النوع من التوحيد ليس هو الغاية من بعثة الرسل عليهم السلام، ولا ينجي وحده من عذاب الله ما لم يأت العبد بلازمه توحيد الألوهية.

ولذا يقول الله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: ١٠٦]، والمعنى أي: ما يقر أكثرهم بالله رباً وخالقاً ورازقاً ومدبراً- وكل ذلك من توحيد الربوبية - إلا وهم مشركون معه في عبادته غيره من الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع.

وبهذا المعنى للآية قال المفسرون من الصحابة والتابعين.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله, وهم مشركون).

وقال عِكْرِمَة: (تسألهم من خلقهم, ومن خلق السماوات والأرض, فيقولون الله, فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره).

وقال مجاهد: (إيمانهم قولهم: الله خالقنا, ويرزقنا, ويميتنا, فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره).

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن زيد: (ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله, ويعرف أن الله ربُّه، وأنَّ الله خالقُه ورازقُه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: ٧٥ - ٧٧]) (١).

والنصوص عن السلف في هذا المعنى كثيرة، بل لقد كان المشركون زمن النبي صلى الله عليه وسلم مقرين بالله رباً خالقاً رازقاً مدبراً، وكان شركهم به من جهة العبادة حيث اتخذوا الأنداد والشركاء, يدعونهم, ويستغيثون بهم, وينزلون بهم حاجاتهم وطلباتهم.

وقد دل القرآن الكريم في مواطن عديدة منه على إقرار المشركين بربوبية الله مع إشراكهم به في العبادة، ومن ذلك قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت: ٦١]، وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [العنكبوت: ٦٣]، وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف: ٨٧]، وقوله تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: ٨٤ - ٨٩].


(١) ((تفسير ابن جرير)) (١٦/ ٢٨٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>