للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثاني: شفاعة الأنبياء الآخرين غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:]

ومن إكرام الله تعالى لأنبيائه وأصفيائه قبول شفاعتهم فيمن يشفعون له ممن سبقت لهم الرحمة، فيتقدمون بطلب شفاعتهم إلى ربهم في إخراج أقوام من النار دخولها بذنوبهم ليخرجوا منها.

وقد ثبتت هذه الشفاعة بما جاء في الصحيحين من حديث طويل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة, وشفع النبيون, وشفع المؤمنون. ولم يبق إلا أرحم الراحمين. فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً)) (١).

وليس معنى هذا أن الله يخرجهم من النار وهم كفار؛ بل المعنى أنهم لم يعملوا خيراً سوى الشهادتين ولولاهما لما خرجوا؛ شأنهم شأن غيرهم من الكفار.

وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يحمل الناس على الصراط يوم القيامة فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار. قال: فينجي الله تعالى برحمته من يشاء, قال: ثم يؤذن للملائكة, والنبيين, والشهداء أن يشفعوا فيشفعون ويخرجون, فيشفعون ويخرجون, فيشفعون ويخرجون)) وزاد عفان مرة فقال أيضاً: ((ويشفعون ويخرجون من كان في قلبه ما يزن ذرة من إيمان)) (٢).

وقد بوب الهيثمي في كتابه (موارد الظمآن)، لإثبات شفاعة الأنبياء والملائكة بقوله: (باب في شفاعة الملائكة والنبيين) ثم أورد الحديث الآتي:

عن صالح بن أبي طريف قال: قلت لأبي سعيد الخدري: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية: رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ [الحجر: ٢]؟ فقال: نعم، سمعته يقول: ((يخرج الله أناساً من المؤمنين من النار بعدما يأخذ نقمته منهم)). قال: ((لما أدخلهم الله النار مع المشركين، قال المشركون: أليس كنتم تزعمون في الدنيا أنكم أولياؤه، فما لكم معنا في النار؟ فإذا سمع الله ذلك منهم أذن في الشفاعة, فتشفع لهم الملائكة والنبيون، حتى يخرجوا بإذن الله، فلما أخرجوا قالوا: يا ليتنا كنا مثلهم فتدركنا الشفاعة، فنخرج من النار. فذلك قول الله: رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ قال: فيسمون الجهنميين من أجل سواد في وجوههم، فيقولون: ربنا أذهب عنا هذا الاسم, فيغتسلون في نهر في الجنة فيذهب ذلك منهم)) (٣).

وقد أورده أيضاً الآجري (٤)، ويذكر الرازي أن أكثر المفسرين على هذا القول (٥).

وروى مجاهد عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: ((ما يزال الله يرحم المؤمنين، ويخرجهم من النار، ويدخلهم الجنة بشفاعة الأنبياء والملائكة، حتى إنه تعالى في آخر الأمر يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، قال: فهنالك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين)) (٦).

وهذا المعنى هو الذي يوافق مذهب السلف لا المعتزلة، ولهذا فإن القاضي فيما ذكره عن الرازي يقول: (إن هذه الروايات مبنية على أنه تعالى يخرج أصحاب الكبائر من النار، وعلى أن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مقبولة في إسقاط العقاب، وهذان الأصلان عنده مردودان).

قال الرازي: (فعند هذا حمل هذا الخبر على وجه يطابق قوله ويوافق مذهبه؛ وهو أنه تعالى يؤخر إدخال طائفة من المؤمنين الجنة بحيث يغلب على ظن الكفرة أنه تعالى لا يدخلهم الجنة، ثم إنه تعالى يدخلهم الجنة فيزداد غمُّ الكفرة وحسرتهم، وهناك يودون لو كانوا مسلمين) (٧).

وهذا تكلف من القاضي ظاهر سببه عدم الإيمان بوقوع الشفاعة في أهل النار.

ومن أين له الدليل على أن الله يؤخرهم وقتاً لأجل غمِّ الكفرة ثم يسمح لهم بدخول الجنة؟!

وقد ذكر الإمام ابن كثير وغيره من المفسرين عند شرح هذه الآية: رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ [الحجر: ٢] كثيراً من النصوص التي تدل على أن الله يخرج من النار أقواماً بفضل رحمته وشفاعة الشافعين لهم (٨)، من الأنبياء وغيرهم. الحياة الآخرة لغالب عواجي- بتصرف - ١/ ٤٦٩


(١) رواه البخاري (٧٤٣٩)، ومسلم (١٨٣).
(٢) رواه أحمد (٥/ ٤٣) (٢٠٤٥٧)، والطبراني في ((المعجم الصغير)) (٢/ ١٤٢) (٩٢٩)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (٨٣٧). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (١٠/ ٣٦٢): رجاله رجال الصحيح، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (٢٥١): إسناده صحيح.
(٣) ((موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان)) (٢٥٩٩).
(٤) ((الشريعة)) (٣٣٧).
(٥) ((تفسير الرازي)) (١٩/ ١٥٤).
(٦) رواه الطبري (١٧/ ٦٢)، والحاكم (٢/ ٣٨٤). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(٧) ((تفسير الرازي)) (١٩/ ١٥٤).
(٨) ((تفسير ابن كثير)) (٢/ ٥٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>