للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المطلب الثالث والعشرون: رؤية الله ورضاه أفضل ما يُعطاه أهل الجنة

عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)) متفق عليه (١) وأعظم النعيم النظر إلى وجه الله الكريم في جنات النعيم، يقول ابن الأثير: (رؤية الله هي الغاية القصوى في نعيم الآخرة، والدرجة العليا من عطايا الله الفاخرة، بلغنا الله منها ما نرجو). وقد صرح الحق تبارك وتعالى برؤية العباد لربهم في جنات النعيم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: ٢٢ - ٢٣]، والكفار والمشركون يحرمون من هذا النعيم العظيم، والتكرمة الباهرة: كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين:١٥]، وقد روى مسلم في (صحيحه) والترمذي في (سننه) عن صهيب الرومي – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أهل الجنة، يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى) زاد في رواية: ((ثم تلا هذه الآية: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: ٢٦])). (٢) وفي (صحيحي البخاري ومسلم) عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها – وفي رواية طولها – ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهل، ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)). (٣)

والنظر إلى وجه الله تعالى هو من المزيد الذي وعد الله به المحسنين لَهُم ما يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: ٣٥]، لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: ٢٦]، وقد فسرت الحسنى بالجنة، والزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، يشير إلى هذا الحديث الذي رواه مسلم ... ورؤية الله رؤية حقيقية، لا كما تزعم بعض الفرق التي نفت رؤية الله تعالى بمقاييس عقلية باطلة، وتحريفات لفظية جائرة، وقد سئل الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة عن قوله تعالى: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: ٢٣]، فقيل: إن قوماً يقولون: إلى ثوابه. فقال مالك: كذبوا، فأين هم عن قوله تعالى: إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين: ١٥]؟ قال مالك: الناس ينظرون إلى الله يوم القيامة بأعينهم، وقال: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة، لم يعبر الله عن الكفار بالحجاب، فقال: كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين:١٥]، رواه في (شرح السنة) ومن الذين نصوا على رؤية المؤمنين ربهم في الجنات الطحاوي في العقيدة المشهورة باسم (العقيدة الطحاوية)، قال: (والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: ٢٢ - ٢٣]، وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سَلِم في دينه إلا من سلّم لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. وردّ علم ما اشتبه عليه إلى عالمه). وقال شارح (الطحاوية) مبيناً مذاهب الفرق الضالة في هذه المسألة ومذهب أهل الحق: (المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية. وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة، وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة). ثم بين أهمية هذه المسألة فقال: (وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مردودن). ثم بين أن قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: ٢٢ - ٢٣]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص٢٥٤


(١) رواه البخاري (٦٥٤٩)، ومسلم (٢٨٢٩).
(٢) رواه مسلم (١٨١)، والترمذي (٣١٠٥).
(٣) النصف الأول من الحديث رواه البخاري (٤٨٧٩)، ومسلم (٢٨٣٨). والنصف الثاني: رواه البخاري (٤٨٧٨)، ومسلم (١٨٠). كلاهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>