للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[العنصر الثاني الإقرار باللسان]

الإقرار باللسان عند السلف عنصر أصلي من عناصر الإيمان، فلا يتصور تحقق الإيمان القلبي التام من قول القلب وعمله دون تحقق الإقرار باللسان، فهو على هذا الأساس يكون من جهة، عبارة عن (إنشاء) عقد جديد يتضمن الالتزام والانقياد، ومن جهة أخرى يكون عبارة عن (إخبار) عما في النفس من اعتقاد.

فمن استخدم لفظ (الإقرار) بمعناه العام هذا من الإخبار والالتزام وقال إن الإيمان هو الإقرار، فالخلاف معه خلاف لفظي، ومن استخدم اللفظ في المعنى الأخير وحده وهو الإخبار لزمه في تعريف الإيمان أن يضيف إليه الاعتقاد بالقلب.

يقول ابن تيمية: (ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين:

أحدهما: الإخبار، وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق، والشهادة، ونحوهما. وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.

والثاني: إنشاء الالتزام، كما في قوله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: ٨١] وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد ... فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول – وكذلك لفظ الإيمان – فيه إخبار وإنشاء التزام) اهـ (١).

فالإقرار باللسان إذن نتيجة تلقائية للتعبير عن تحقق الإيمان القلبي من تصديق بالحق وانقياد له. (ولذلك فإن العرب لا تعرف في لغتها التصديق والتكذيب إلا ما كان معنى ولفظاً أو لفظاً يدل على معنى، فلا يوجد في كلام العرب أن يقال: فلا صدق فلاناً أو كذبه إذا كان يعلم بقلبه أنه صادق أو كاذب ولم يتكلم بذلك. فمن لم يصدق بلسانه مع القدرة لا يسمى في لغة القوم مؤمناً، كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. فمن صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه فإنه لا يعلق به شيء من أحكام الإيمان لا في الدنيا ولا في الآخرة، إذ لم يجعل الله أحداً مصدقاً للرسل بمجرد العلم والتصديق الذي في قلوبهم، حتى يصدقوهم بألسنتهم. ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين، حيث اتفق المسلمون على أن من لم يأت بالشهادتين مع القدرة على ذلك فهو كافر، وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها) (٢).

يقول البدر العيني: (اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على ما قاله النووي: إن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار، لا يكون من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق مع ذلك بالشهادتين.

قال: فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القبلة أصلاً، بل يخلد في النار إلا أن يعجز عن النطق لخلل في لسانه، أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية، أو لتغير ذلك، فإنه حينئذ يكون مؤمناً بالاعتقاد من غير لفظ) اهـ (٣).

ولا بد أن نقرر هنا – وبناء على كل ما سبق - أن التلفظ بالشهادتين إذن ليس مقصوداً لذاته، وإنما المقصود هو الإعلان عن تحقيق مدلولهما من:

الإقرار بالتوحيد (ولوازمه من النبوة والبعث).

ترك الشرك والتبرئ منه.

التزام شرائع الإسلام.

فإذا لم تعبر الشهادة عن نفس هذه المعاني لم تقبل من قائلها، حتى تكون تعبيراً واقعياً عن مدلولها. وإذا عبر عن نفس هذه المعاني بكلمات أخرى قبلت من قائلها، حتى يلقن الشهادتين أو يتعلمهما أو يحسن التكلم بهما.


(١) ((الإيمان الأوسط)) (ص: ٧٢، ٧٣).
(٢) راجع: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: ١٢٦، ١٣١، ١٣٥، ٢٠٧، ٢٨٧). وراجع ((الإيمان الأوسط)) (ص: ٩٥، ١٥١).
(٣) ((عمدة القاري)) (١/ ١١٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>