للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المسألة الأولى: العلاقة بين إيمان القلب وعمل الجوارح]

إن العلاقة بين إيمان القلب وعمل الجوارح لمن أهم قضايا الإيمان، ومن عدم فهمها دخل الضلال على المرجئة بل على أكثر المسلمين، حين ظنوا أنه يمكن أن يكون إنسان كامل الإيمان في القلب مع عدم عمل الجوارح مطلقا. كما ظنوا أن تماثل الناس في أعمال الجوارح يقتضى تماثل إيمانهم وأجورهم، ولم يدركوا أنه بحسب علاقة عمل الجارحة بعمل القلب يكون الحكم على العمل والثواب عليه، فقد يتفق العملان في المظهر والأداء، وبينهما مثل ما بين السماء والأرض في الدرجة والأجر.

وأساس فهم هذه القضية أن نعلم حقيقة الترابط بين أجزاء الإيمان على ضوء مذهب السلف.

فقد قررنا أن الإيمان قول وعمل وأن ذلك يشمل القلب والجوارح معا ...... ،

فهذان الركنان - القول والعمل - أو الأربعة الأجزاء - قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح - يتركب منهما هيئة مجتمعة أو حقيقة جامعة لأمور، هذه الهيئة والحقيقة هي (الإيمان الشرعي) كما أن حقيقة الإنسان مركبة من الجسد والروح أو العقل والوجدان، وكما أن الشجرة تتركب من الجذور الضاربة في الأرض والساق والأغصان الظاهرة.

ومما يوضح ذلك تشبيه تركيب الإيمان بالتركيب الكيميائي: مثلما يتركب الملح مثلا من الكلور والصوديوم أو يتركب جزيء الماء من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين بحيث لو انتفى التركيب لانتفت الحقيقة مطلقا وتحولت الأجزاء إلى أشياء مختلفة تماما.

ولكن لا يقف التركيب عند هذا الحد، بل يجب أن نضيف إليه أن هذه الأجزاء أو الهيئة المركبة تتكون تفصيلا من بضع وسبعين شعبة، وكل شعبة منها قابلة للتفاوت بين أعلى درجات الكمال وأدنى درجات النقص أو الاضمحلال والعدم.

وبهذا نفهم اندراج كل الأعمال والطاعات فرضا أو نفلا في مسمى الإيمان المطلق ودخولها في حقيقته الجامعة، كما يظهر تفاوت الناس في الإيمان ودرجاته، ومن أظهر الأدلة على هذا التركيب والامتزاج أنه قد وردت النصوص بتسمية الإيمان عملا وتسمية العمل إيمانا:

فأما تسمية الأعمال إيمانا فنصوص كثيرة جدا، حتى إن البخاري رحمه الله عقد في كتاب الإيمان من الصحيح تراجم كثيرة لذلك: مثل (باب الجهاد من الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، باب صوم رمضان من الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، باب اتباع الجنائز من الإيمان) ونحو ذلك، وأورد في ذلك الأحاديث الصحيحة التي شاركه في إخراجها كتب السنة الأخرى.

وأما تسمية الإيمان عملا فقد عقد أيضا له (باب من قال إن الإيمان هو العمل، لقوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: ٧٢]. وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: ٩٢ - ٩٣]: عن قول لا إله إلا الله. وقال: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات: ٦١]).

ثم روى البخاري بسنده عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال ((إيمان بالله ورسوله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) (١).


(١) رواه البخاري (٢٦)، ورواه مسلم (٨٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>