للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثالث: قولهم في الزيادة والنقصان]

والمرجح عندهم إثبات الزيادة والنقصان في الإيمان.

قال الصاوي: (تقدم أن أعمال الجوارح من كمال الإيمان، فمن صدق بقلبه، ونطق بلسانه ولم يعمل بجوارحه فهو مؤمن ناقص الإيمان، فلما كان له مدخلية في كمال الإيمان، شَرع - أي صاحب الجوهرة - يتكلم على زيادته بالعمل، ونقصه بنقصه، فقال: (ورُجحت ... الخ) وهذا الترجيح لجمهور الأشاعرة والماتريدية، ومالك والشافعي وأحمد. وحجتهم العقل والنقل، أما العقل: فلأنه يلزم عليه مساواة إيمان المنهمكين في الفسق والمعاصي لإيمان الأنبياء والملائكة، واللازم باطل فكذا الملزوم. وأما النقل: فقوله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:٣]، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ((قلت يا رسول الله: إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار)) (١). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح)) (٢)، وقال عمر في حق أبي بكر: ليت عملي مدى عمري كيوم وليلة لأبي بكر، إنما أنا حسنة من حسناته. (٣). ومراد عمر باليوم والليلة يوم وفاته عليه الصلاة والسلام، وليلة الغار، فإنه رافقه في الغار، وثبت الناس حين دهشوا يوم الوفاة.

وأيضا: فإن المشاهَد للشخص في نفسه أنه عند كثرة عبادته وذكره وإقباله على الله يجد في نفسه رقة ونورا، لم يوجد عند عدم الطاعة) (٤).

وقال في (إتحاف المريد): (ورُجحتْ زيادة الإيمان) أي ورجح جماعة من العلماء القول بقبول الإيمان الزيادة ووقوعها فيه، (بما تزيد طاعة) أي بسبب زيادة طاعة (الإنسان) وهي فعله المأمور به، واجتناب المنهي عنه (ونقصه) أي الإيمان من حيث هو لا بقيد محل مخصوص، فلا يرد الأنبياء والملائكة إذ لا يجوز على إيمانهم أن ينقص (بنقصها) يعني الطاعة إجماعا (٥)، هذا مذهب جمهور الأشاعرة ... (وقيل) أي وقال جماعة من العلماء أعظمهم الإمام أبو حنيفة وأصحابه وكثير من المتكلمين: الإيمان (لا) يزيد ولا ينقص؛ لأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان، وهذا لا يتصور فيه ما ذكر) (٦).

وادعى الرازي أن الخلاف لفظيٌ، فرعُ تفسير الإيمان، فإن قلنا: هو التصديق فلا يقبل الزيادة والنقصان، وإن قلنا: هو الأعمال قبل ذلك (٧).

والمرجح عند الأشاعرة أن الخلاف حقيقي، وأن التصديق نفسه يزيد وينقص.

قال في شرح المواقف: (والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان) (٨).

وقال في إتحاف المريد: (لأن الأصح أن التصديق القلبي يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها) (٩).

هذا ما عليه متأخرو الأشاعرة، وهو الذي استقر عليه مذهبهم. وقد ذهب إلى القول بالزيادة والنقصان جماعة من متقدميهم أيضا، كالبيهقي، وأبي منصور عبد القاهر البغدادي، وأبي القاسم القشيري، والآمدي، ثم النووي وصفي الدين الهندي وتقي الدين السبكي، على ما ذكره التاج السبكي في الطبقات (١٠). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - ١/ ٢٣٨


(١) لم أجده.
(٢) عزاه في المقاصد الحسنة، ص (٥٥٥) إلى (إسحاق بن راهويه والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن عمر من قوله). وقال في الفوائد المجموعة، ص (٣٣٥): (وسنده موقوفا على عمر صحيح ومرفوعا ضعيف).
(٣) رواه الحاكم (٣/ ٦)، عن محمد بن سيرين قال: ذكر رجال على عهد عمر فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر قال فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر وليوم من أبي بكر خير من آل عمر. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين لولا إرسال فيه ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في ((التلخيص)). وانظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (٣/ ١٨٠)، و ((كنز العمال)) (١٢/ ٧٣٣).
(٤) ((شرح الصاوي)) (ص١٣٤ - ١٣٦).
(٥) قوله: (إجماعا) راجع إلى إيمان الأنبياء والملائكة، كما بينه ابن الأمير في حاشيته.
(٦) ((إتحاف المريد)) (ص٩٩ - ١٠٢).
(٧) ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) (ص٥٧١).
(٨) ((شرح المواقف)) (٨/ ٣٦٠).
(٩) ((إتحاف المريد)) (ص١٠٥)، وانظر: ((شرح البيجوري على الجوهرة)) (ص٥١)، و ((شرح الصاوي)) (ص١٣٨)
(١٠) ((طبقات الشافعية الكبرى)) (١/ ١٣٠ - ١٣٣)، وانظر: ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص١٩١)، و ((شرح النووي على مسلم)) (١/ ١٤٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>