للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثالث: الحرية]

وهذا الشرط أيضًا من الشروط الضرورية في الإمامة لأن المملوك لا يحق له التصرف في شيء إلا بإذن سيده، فلا ولاية له على نفسه، فكيف تكون له الولاية على غيره، ويعلل الغزالي هذا الشرط بقوله: (فلا تنعقد الإمامة لرقيق، فإن منصب الإمامة يستدعي استغراق الأوقات في مهمات الخلق فكيف ينتدب لها من هو كالمفقود في حق نفسه الموجود لمالك يتصرف تحت تدبيره وتسخيره، كيف وفي اشتراط نسب قريش ما يتضمن هذا الشرط، إذ ليس يتصور الرق في نسب قريش بحال من الأحوال) (١).

هذا وقد نقل ابن بطال عن المهلب الإجماع على ذلك فقال: (وأجمعت الأمة على أنها - أي الإمامة - لا تكون في العبيد) (٢). وقال الشنقيطي: (لا خلاف في هذا بين العلماء) (٣).

ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا الخوارج، فإنهم جوزوا أن يكون الإمام عبدًا (٤) وشذوذ الخوارج لا يعده العلماء قادحًا في صحة الإجماع.

فإن قيل: ورد في الصحيح ما يدل على إمامة العبد فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) (٥). ونحوه عن العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه في الحديث الطويل: قال: ((وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقام رجل فقال: إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله ... والسمع والطاعة وإن عبد حبشي ... )) الحديث (٦). وما في معناهما.

فالجواب على ذلك من أوجه:

(١) أنه قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود عادة، فإطلاق العبد الحبشي لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة، وإن كان لا يتصور شرعًا أن يلي ذلك، ذكر ابن حجر هذا الجواب عن الخطابي (٧)، ويشبه هذا الوجه قوله تعالى: قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف: ٨١] على أحد التفسيرات (٨).

(٢) أن المراد باستعمال العبد الحبشي أن يكون مأمورًا من وجهه الإمام الأعظم على بعض البلاد، قال الشنقيطي رحمه الله: (وهو أظهرها) (٩) فليس هو الإمام الأعظم.

(٣) أن يكون أطلق عليه اسم العبد نظرًا لاتصافه بذلك سابقًا مع أنه وقت التولية حر، ونظيره إطلاق لفظ اليتيم على البالغ باعتبار اتصافه به سابقًا في قوله: وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ... [النساء: ٢].

(٤) أو أن المراد بذلك المتغلِّب لا المختار، ففي هذه الحالة تجب طاعته وإن كان عبدًا حبشيًا، ولا يجوز الخروج عليه لمجرد عبوديته، ويؤيد هذا الرأي لفظ: ((إن تأمر عليكم ... )) فلفظ ((تأمر)) يدل على أنه تسلط على الإمارة بنفسه ولم يؤمر من قبل أهل الحل والعقد.


(١) [١٢٩٥٣])) ((فضائح الباطنية)) (ص: ١٨٠).
(٢) [١٢٩٥٤])) ((فتح الباري)) (١٣/ ١٢٢).
(٣) [١٢٩٥٥])) ((أضواء البيان)) (١/ ٥٥).
(٤) [١٢٩٥٦])) ((الملل والنحل للشهرستاني)) (١/ ١١٦).
(٥) رواه البخاري (٧١٤٢).
(٦) رواه أبو داود (٤٦٠٧) والترمذي (٢٦٧٦)، وابن ماجه (٤٢) وأحمد (٤/ ١٢٦) (١٧١٨٤)، والحاكم (١/ ١٧٦). من حديث العرباض بن سارية. والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي. وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)): ثابت صحيح, (٢/ ١١٦٤) وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (١/ ١٨١)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
(٧) [١٢٩٥٩])) ((فتح الباري)) (١٣/ ١٢٢).
(٨) [١٢٩٦٠])) ((أضواء البيان)) (١/ ٥٦).
(٩) [١٢٩٦١])) ((أضواء البيان)) (١/ ٥٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>