للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الرابع: حق المال]

واجبات الإمام كثيرة كما سبق تستدعي التفرغ التام لتدبير شؤون الرعية، وهو كغيره من الناس في حاجة إلى المال لمأكله ومشربه وخدمه وعياله ونحو ذلك، لذلك فقد جعل الإسلام له حقًا في مال المسلمين يأخذ منه ما يكفيه ومن يعول، وقد أخذ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ما يكفيهما من بيت المال. فقد روى ابن سعد في الطبقات بسنده عن عطاء بن السائب قال: (لما استخلف أبو بكر رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح فقال له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئًا فانطلق معهما، ففرضوا له كل يوم شطر شاة وكسوة في الرأس والبطن) (١).

وروى البخاري وابن سعد بسنديهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما استخلف أبو بكر الصديق قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مئونة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، واحترف للمسلمين فيه) (٢).

ولما وُلي عمر بن الخطاب أمر المسلمين بعد أبي بكر مكث زمانًا لا يأكل من المال حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، وأرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشارهم في ذلك فقال: (قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعم، قال: وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك) (٣).

وروى أحمد بسنده إلى عبد الله بن زرير عن علي بن أبي طالب قال: يا ابن زرير إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يضعها بين الناس)) (٤).

وروى أيضًا ابن سعد وابن أبي شيبة عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف) (٥). قلت: أشار بذلك إلى قوله تعالى: وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: ٦]. وتساءل بعض المسلمين عما يحلُّ لأمير المؤمنين من المال فقال عمر: (أنا أخبركم بما أستحل منه، يحل لي حلتان: حلة في الشتاء، وحلة في القيظ. وما أحج عليه وأعتمر من الظهر، وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بَعْدُ رجل من المسلمين يصيبني ما يصيبهم) (٦).

مما سبق يتَّضح أن للإمام أن يأخذ من مال المسلمين راتبًا معيَّنا يَسُدُّ به حاجته ومن يعول من غير إسراف ولا تقتير، وقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحق لمن ولي ولاية من إمارة أو غيرها وإن كان موسرًا، فقد روى البخاري بسنده إلى حويطب بن عبد العزى أخبره ((أن عبد الله بن السعدي أخبره أنه قدم على عمر في خلافته فقال له عمر: ألم أحدَّث أنك تلي من أعمال الناس أعمالاً فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقلت: بلى فقال عمر: ما تريد ذلك؟ قلت: إني لي أفراسًا وأعبدًا وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين، قال عمر: لا تفعل فإني كنت أردت الذي أردت فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالاً فقلت: أعطه أفقر إليه مني، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: خذه فتموّله وتصدق به فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وإلا فلا تتبعه نفسك)) (٧). قال الحافظ ابن حجر: قال الطبري: (في حديث عمر الدليل الواضح على أن من شُغل بشيء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك) (٨). لكن عليه أن يتقي الله فيه، فإنه أمانة في يده فعليه أن يأخذ ما يكفيه بلا إسراف ولا تقتير، ولا يعبث بأموال المسلمين التي ائتمنه الله عليها. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: ٤١٦


(١) [١٣٣٠٢])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (٣/ ١٨٤)، وابن الجوزي في ((صفوة الصفوة)) (١/ ٢٥٧).
(٢) [١٣٣٠٣])) رواه البخاري (٢٠٧٠)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (٣/ ١٨٤).
(٣) [١٣٣٠٤])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (٣/ ٣٠٧).
(٤) [١٣٣٠٥])) رواه أحمد (١/ ٧٨) (٥٧٨). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٥/ ٢٣٤): فيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (٢/ ٢٦)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (٣٦٢).
(٥) [١٣٣٠٦])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (٧/ ٦٢٤)، وابن أبي شيبة (٣/ ٢٧٦).
(٦) [١٣٣٠٧])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (٣/ ٢٧٥ - ٢٧٦).
(٧) [١٣٣٠٨])) رواه البخاري (٧١٦٣).
(٨) [١٣٣٠٩])) ((فتح الباري)) (١٣/ ١٥٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>