للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفرع الثاني: حالة كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستحبا]

وأما حال كونه مستحباً فإن هذا يكون في أحد حالين وهما:

الحالة الأولى: أن يكون المأمور به مستحباً ولم يتواطأ أهل بلد على تركه، أو يكون الفعل المرتكب مكروهاً (١) فيكون النهي عنه مستحباً.

الحالة الثانية: وهي كون المأمور به أمراً واجباً أو الفعل المرتكب أمراً محرماً .. لكنه يخشى إذا أنكر أن يلحقه الضرر (٢) أو الهلاك، فيسقط عنه الوجوب (٣) ويبقى مستحباً في حقه (٤) إن كان يرجو النفع من جراء أمره ونهيه – على قول- ولذا قال الإمام أحمد –رحمه الله-: (إن عرضت على السيف لا أجيب. -وقال- إذا أجاب العالم تقية والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق؟!) (٥).

وإن مما يدل على استحبابه في هذه الحالة: ما قصه الله تعالى عن الأنبياء وأتباعهم مع أقوامهم وما لاقوه من صنوف الأذى منهم .. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لخباب حينما شكى إليه ما يجد وأصحابه من المشركين، والنبي صلى الله عليه وسلم متوسد بردة له في ظل الكعبة: ((كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه .. )) (٦).

قال القرطبي عند قوله تعالى في وصية لقمان: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان: ١٧] (يقتضي حضاً على تغيير المنكر وإن نالك ضرر فهو إشعار بأن المغير يؤذى أحياناً وهذا القدر على جهة الندب والقوة في ذات الله. أما على اللزوم فلا) ا. هـ (٧).

وقال الجصاص في كلامه على قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ... [آل عمران: ٢١] (وفي هذه الآية جواز إنكار المنكر مع خوف القتل، وأنه منزلة شريفة يستحق بها الثواب الجزيل لأن الله مدح هؤلاء الذين قتلوا حين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر .. ) (٨) هذا واعلم أن الذي يأمر وينهى في مثل هذه الحال أفضل وأكمل حالاً من غيره. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)) (٩).

قال ابن طاهر: سمعته – يعني شيخ الإسلام الهروي – يقول: عرضت على السيف خمس مرات لا يقال لي: ارجع عن مذهبك. لكن يقال لي: اسكت عمن خالفك فأقول: لا أسكت (١٠).


(١) انظر: ((الآداب الشرعية)) (١/ ١٧٤)، ((الفروق)) للقرافي (٤/ ٢٥٧).
(٢) وهذا لا يعني أنه يسقط عنه الإنكار بالقلب فإنه واجب في هذه الحال. انظر: ((تفسير ابن عطية)) (٥/ ١٦٦)، ((أصول الدعوة)) (ص: ١٨٩).
(٣) انظر: ((تفسير ابن عيطة)) (٥/ ١٦٦)) ((الفروق)) للقرافي (٤/ ٢٥٧ - ٢٥٨)، ((الفتح)) (١٣/ ٥٣).
(٤) انظر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: ٤٧ - ٦٢، ٩٧ - ٩٩) ((أصول الدعوة)) (ص: ١٩١).
(٥) ((الآداب الشرعية)) (١/ ١٥٩).
(٦) رواه البخاري (٣٦١٢).
(٧) انظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (١/ ٢٦٦) و ((تفسير القرطبي)) (١٤/ ٦٨).
(٨) ((أحكام القرآن)) للجصاص (٢/ ٢٨٦ - ٢٨٧).
(٩) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (٣/ ٢١٥)، والخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد) (٦/ ٣٧٦). من حديث جابر رضي الله عنه. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (٢٦٣): في إسناده حكيم بن زيد قال الأزدي: فيه نظر، وبقية رجاله ثقات، والحديث صححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (٣٧٤).
(١٠) ((نزهة الفضلاء)) (٣/ ١٣١٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>