للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المطلب الثاني: البدعة اصطلاحاً

البدعة .. عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه. وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنَّما يخصها بالعبادات، وأمَّا على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول: البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد. فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنَّما قُيِّدت بالدين لأنَّها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضاً فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم.

ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم، فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها ما ليس له أصل فيها، خُصَّ منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع، أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع، إذ البدعة إنَّما خاصَّتها أنَّها خارجة عما رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كلِّ ما ظهر لبادي الرأْي أنَّه مخترع مما هو متعلق بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأُصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة فإنَّها وإن لم توجد في الزمان الأوَّل فأُصولها موجودة في الشرع.

(فإن قيل): فإنَّ تصنيفها على ذلك الوجه مخترع.

(فالجواب): أنَّ له أصلاً في الشرع، ففي الحديث ما يدل عليه، ولو سُلِّم أنَّه ليس في ذلك دليل على الخصوص، فالشرع بجملته يدل على اعتباره، وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة،

فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعياً لا إشكال في أنَّ كلَّ علم خادم للشريعة داخلٌ تحت أدلته التي ليست بمأْخوذة من جزئي واحد؛ فليست ببدعة البتَّة.

وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات، وإذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة، لأنَّ كلَّ بدعة ضلالة من غير إشكال، كما يأتي بيانه إن شاء الله.

ويلزم من ذلك أن يكون كَتْبُ المصحف وجَمْعُ القرآن قبيحاً، وهو باطل بالإجماع فليس إذاً ببدعة.

ويلزم أن يكون دليل شرعي، وليس إلا هذا النوع من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة.

وإذا ثبت جزئيٌ في المصالح المرسلة، ثبت مطلق المصالح المرسلة.

فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة، بدعة أصلاً.

وقوله في الحد تضاهي الشرعية يعني: أنَّها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة:

منها: وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعد، ضاحياً لا يستظل، والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة.

ومنها: التزام الكيفيات والهَيْئَات المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، وما أشبه ذلك.

ومنها: التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته.

وثَمَّ أوجهٌ تضاهي بها البدعةُ الأمورَ المشروعة، فلو كانت لا تضاهي الأمورَ المشروعة لم تكن بدعة، لأنَّها تصير من باب الأفعال العادية.

وقوله: يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها.

وذلك أنَّ أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك. لأنَّ الله تعالى يقول: وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦]، فكأنَّ المبتدع رأى أنَّ المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أنَّ ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ.

وقد تبين بهذا القيد أنَّ البدع لا تدخل في العادات. فكل ما اختُرِع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية.

وأمَّا الحد على الطريقة الأُخرى (١) فقد تبين معناه إلا قوله: يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية.

ومعناه أنَّ الشريعة إنَّما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأْتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته. لأنَّ البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات، فإن تعلَّقت بالعبادات فإنَّما أراد بها أن يأتي تعبُّده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه. وإن تعلقت بالعادات فكذلك، لأنَّه إنَّما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها.

وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع والحمد لله (٢). مختصر كتاب الإعتصام للشاطبي لعلوي بن عبد القادر السقاف – ص: ٧


(١) [١٤٩٩٥])) أي: طريقة من يُدخل العادات في معنى البدع.
(٢) [١٤٩٩٦])) ((الاعتصام)) للشاطبي (١/ ٣٧ - ٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>