للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)) (١).

وعن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال: ((ألك مال؟ قال: نعم. قال: من أي المال؟ قال: قد آتاني الله من الإبل, والغنم, والخيل, والرقيق. قال: فإذا آتاك الله مالاً، فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته)) (٢).

فإذا أنعم الله عليك بمال فليكن عليك أثر هذا المال في لباسك، في بيتك، في مركوبك، في صدقاتك، في نفقاتك؛ لير أثر نعمة الله عليك في هذا المال. وإذا أنعم الله عليك بعلم فلير عليك أثر هذا العلم من تعليمه ونشره بين الناس، والدعوة إلى الله، وغير ذلك (٣).

والشكر بالجوارح: أن لا يستعان بالنعم إلا على طاعة الله، وأن يحذر من استعمالها في شيء من معاصيه.

قال سبحانه وتعالى: اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا [سبأ: ١٣].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه ويقول: ((أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟!)) (٤).

فسمى الأعمال شكراً، وأخبر أن شكره قيامه بها ومحافظته عليها (٥).

العجب ممن يعلم أن كل ما به من النعم من الله، ثم لا يستحي من الاستعانة بها على ارتكاب ما نهاه!

ولقد أحسن القائل:

أنالك رزقه لتقوم فيه ... بطاعته وتشكر بعض حقه

فلم تشكر لنعمته ولكن ... قويت على معاصيه برزقه

ومن كثرت عليه النعم فليقيدها بالشكر، وإلا ذهبت.

إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم

وحافظ عليها بشكر الإله ... فشكر الإله يزيل النقم

ولو لم يكن من فضل الشكر إلا أن النعم به موصولة، والمزيد لها مرتبط به؛ لكان كافياً، فهو حافظ للموجود من النعم، جالب للمفقود منها بالمزيد. قال سبحانه وتعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: ٧]، نعمة إلى نعمة تفضلاً من الكريم المنان.

فلن ينقطع المزيد من الله تعالى، حتى ينقطع الشكر من العبد.

(فمن شكر الله على ما رزقه وسع الله عليه في الرزق، ومن شكر الله على ما أقدره عليه من طاعته، زاده من طاعته، ومن شكره على ما أنعم من الصحة، زاده الله صحة إلى غير ذلك) (٦).

فبالشكر تثبت النعم ولا تزول، ويبلغ الشاكر من المزيد فوق المأمول. فمتى لم تر حالك في مزيد، فاستقبل الشكر.

وإذا وفقك الله للشكر، فهذه نعمة تحتاج إلى شكر جديد؛ فإن شكرت، فإنها نعمة تحتاج إلى شكر ثان، وهلم جرا. فلا يقدر العباد على القيام بشكر النعم. وحقيقة الشكر الاعتراف بالعجز عن الشكر، كما قيل:

إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتصل العمر

ولهذا نقول: سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

والرب سبحانه وتعالى يعطي مع استغنائه عن العبد، والعبد يشكر مع افتقاره إلى الرب. فهل يكافئ شكر المحتاج الفقير عطاء الغني الكريم؟!


(١) رواه الترمذي (٢٨١٩). وقال: حسن، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (٣/ ٥١٨): إسناده جيد إلى عمرو حديثه حسن، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (١٠/ ٢٧١): له شاهد.
(٢) رواه أبو داود (٤٠٦٣)، والنسائي (٨/ ١٨١)، والطبراني (١٩/ ٢٨٠) (١٦٢٨٥). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (٩/ ١١٨): رجاله رجال الصحيح، وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (١/ ٧٤٦) كما أشار إلى ذلك في المقدمة.
(٣) ((شرح رياض الصالحين)) (٣/ ٥٢٤).
(٤) رواه البخاري (٤٨٣٧). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٥) ((طريق الهجرتين)) (ص: ٦٢١).
(٦) ((فتح البيان)) (٧/ ٨٨ - ٨٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>