للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وقال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (هود: ١١٨ - ١١٩).

قال ابن حزم: "وقد نص تعالى على أن الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به [شرعاً]، وإنما أراده تعالى إرادة كونٍ، كما أراد الكفر وسائر المعاصي" (١)، أي إرادة كونية، إذ لا يقع شيء إلا بعلم الله وقدرته ومشيئته، فلن يعصى الله قهراً.

وقال ابن كثير في شرح قول الله: {ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك}: "أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم .. قال الحسن البصري: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك، فمن رحم ربك غير مختلف" (٢).

ولما كان الاختلاف والتّعدّد آية من آيات الله، فإنّ الذي يسعى لإلغاء هذا التّعدّد كلية، فإنما يروم محالاً ويطلب ممتنعاً، لذا كان لابد من الاعتراف بالاختلاف.

[ب. مهمة المسلمين الدعوة إلى الله لا أسلمة الناس]

أدرك المسلمون أن هداية الجميع من المحال، وأن أكثر الناس - كما أخبر الله - لا يؤمنون {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} (يوسف: ١٠٣)، وأدركوا أيضاً أن واجب الدعاة هو الدأب في دعوة الآخرين وطلب أسباب هدايتهم. فإن مهمتهم هي البلاغ فحسب، والله هو من يتولى حساب المعرضين في الآخرة، قال الله مخاطباً نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فإن تولوا فإنما عليك البلاغ} (النحل: ٨٢). وقال تعالى: {فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصيرٌ بالعباد} (آل عمران: ٢٠).

قال الإمام القرطبي: " فإن تولوا أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والإيمان؛ فإنما عليك البلاغ، أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا" (٣).

قال الشوكاني في سياق شرحه لقول الله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} (الرعد: ٤٠): " أي: فليس عليك إلا تبليغ أحكام الرسالة، ولا يلزمك حصول الإجابة منهم لما بلّغته إليهم، {وعلينا الحساب} أي: محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها، وليس ذلك عليك" (٤).

وقال تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر - لست عليهم بمسيطر} (الغاشية: ٢١ - ٢٢).

ولذلك فإن المسلم لا يشعر بحالة الصراع مع ذاك الذي تنكب الهداية وأعرض عن أسبابها، فإنما حسابه على الله في يوم القيامة، فقد قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} (البقرة: ٢٧٢). وقال له وللأمة من بعده: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير} (الشورى: ١٥).


(١) الإحكام في أصول الأحكام (٢/ ٦٤).
(٢) تفسير القرآن العظيم (٢/ ٤٦٦).
(٣) الجامع لأحكام القرآن (١٠/ ١٦١).
(٤) فتح القدير (٣/ ٩٠).

<<  <   >  >>