للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه فقال له مبيناً ومعلماً: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن))، ثم أمر رجلاً من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنَّه [فصبَّه] عليه. (١)

واستدان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحدهم، فجاء الرجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب دينه، فأغلظ القول في طلبه، فهمَّ به أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال عليه الصلاة والسلام معتذراً لسوء مقال الرجل وغلظته: ((إن لصاحب الحق مقالاً)).

ثم قال لأصحابه: ((اشتروا له سِناً))، فأعطوه إياه. فقالوا: إنا لا نجد إلا سِنَّاً هو خيرٌ من سِنِّه. قال: ((فاشتروه، فأعطوه إياه، فإن من خيركم أحسنَكم قضاءً)). (٢)

فلم يقابل رسول الله إساءة الرجل بمثلها، بل عفا عنه وصفح، ثم أحسن إليه، فرد خيراً مما أخذ، وهو في كل ذلك يمتثل أمر ربه ومولاه {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} (آل عمران: ١٣٤).

وهكذا فإن هذا الصفح وذلكم الحلم، إنما هما بعض أخلاق النبوة التي كساها الله نبيه وحبيبه - صلى الله عليه وسلم - لتكون شاهداً آخر على نبوته ورسالته. (٣)

[زهد النبي - صلى الله عليه وسلم -]

وإن من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - زهادته في الدنيا وإعراضه عنها ترقباً لجزاء الله في الآخرة، ولو كان دعياً يفتري الكذب لما فرط في دنيا يفتري ابتغاء الكسب فيها، فإعراضُه - صلى الله عليه وسلم - عن الدنيا وزهدُه في متاعها دليل نبوته ورسالته.


(١) رواه البخاري ح (٢٢١)، ومسلم ح (٢٨٥)، واللفظ له.
(٢) رواه البخاري ح (٢٣٩٠)، ومسلم ح (١٦٠١).
(٣) يعلق المستشرق الأمريكي واشنجتون إيرفنج في كتابه "حياة محمد" على عفو النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قريش عند فتح مكة بقوله: "كانت تصرفات الرسول [- صلى الله عليه وسلم -] في مكة تدل على أنه نبي مرسل، لا على أنه قائد مظفر، فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه، برغم أنه أصبح في مركز قوي، ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو". قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل ص (٨١).

<<  <   >  >>