للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم فعل خوارم المروءة]

(أجمع العلماء على أن من فعل ما يخل بالمروءة لا تقبل شهادته والأفعال والأقوال التي تخل بالمروءة أقسام:

الأول: المحرمات التي يعد فعلها كبيرة، سواء أكانت محرمة لذاتها أم لغيرها، ومن العلماء من جعل كل ما يخل بالمروءة كبيرة وليس ذلك صحيحاً.

الثاني: المكروهات إذا حكم على فعلها بأنها صغيرة فتخل بالمروءة والعدالة بالإدمان عليها وغلبتها على الطاعات؛ إلا صغائر الخسة؛ فإنها تخل بالمروءة لفعلها مرة واحدة.

الثالث: المباحات؛ فالأصل فيها أن لا يأثم الإنسان على تركها ولا يثاب على فعلها، وقد يثاب إذا رافقتها نية صالحة كالتقوى على العبادة أو التصدق على المحتاجين ... إلخ.

وهذه المباحات لا تخل بالمروءة إلا إذا انتقلت من حكم الإباحة إلى غيره؛ فقد تصبح محرمة إذا كان فعلها إتلافاً وإضراراً بالآخرين، وقد يصبح فعلها مكروهاً بالإدمان عليها أو التشبه بالفسقة في فعلها، أو رافقها الإسراف؛ فهذه تخل بالمروءة.

وهناك من المباحات ما يخل بالمروءة عرفاً؛ فهذه تخل بالمروءة إذا كان العرف معتبراً شرعاً أي غير فاسد باصطدامه بمقاصد الشرع وأدلته، ولأن هذه المباحات المخلة بالمروءة عرفاً لا يحرم فعلها إلا إذا تعينت على فاعلها الشهادة، ولم تكن هناك وسيلة للإثبات غير شهادته بوجود شاهد آخر أو وثيقة؛ فحرمة فعلها جاءت لتسببها في ضياع الحقوق، ومن الشافعية من ذهب إلى عدم حرمتها ولو كانت كذلك، فرداً على السؤال التالي: هل يحرم تعاطي المباحات التي ترد بها الشهادة لإخلالها بالمروءة؟

ذكروا ثلاثة أوجه:

١ - الإباحة مطلقاً.

٢ - التحريم.

٣ - الإباحة إلا إذا تعينت عليه الشهادة فيحرم عليه تعاطيها.

قلت: يندب للمرء المحافظة على مروءة أمثاله فيما يتعلق بالمباحات ويحرم عليه الإخلال بها إذا تعينت عليه الشهادة وأدى رد شهادته إلى ضياع الحق المراد إثباته، والله أعلم، أما المروءة التي هي درجة أرفع وأعلى من المروءة المشروطة في العدالة كالتصدق بالمال والطعام والمساعدة بالنفس والجاه؛ فإنها مستحبة لا لتعلقها بالعدالة والشهادة، ولكن للنصوص الواردة فيها، ولمعنى اجتماعي أوسع ولا يتعلق بتركها أثر على الشهادة غالباً.

وفي مثل هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -:

(وأما تفسير (العدالة) المشروطة في هؤلاء الشهداء؛ فإنها الصلاح في الدين والمروءة، والصلاح في أداء الواجبات، وترك الكبيرة، والإصرار على الصغيرة، و (الصلاح في المروءة) استعمال ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه، فإذا وجد هذا في شخص كان عدلاً في شهادته، وكان من الصالحين الأبرار، وأما أنه لا يستشهد أحد في وصية أو رجعة في جميع الأمكنة والأزمنة حتى يكون بهذه الصفة؛ فليس في كتاب الله وسنة رسوله ما يدل على ذلك، بل هذا صفة المؤمن الذي أكمل إيمانه بأداء الواجبات، وإن كان المستحبات لم يكملها ومن كان كذلك كان من أولياء الله المتقين).

وإلى مثل هذا ذهب الصنعاني؛ فإنه لم يقبل الحد الدارج للعدالة الوارد في كتب الأصول وكتب المصطلح، وبين أنه لا يتمثل به إلا الكمل من المتقين، وصنف في ذلك مؤلفاً ناقش فيه ما عند ابن حجر في (النخبة)، وسماه بـ (ثمرات النظر في علم الأثر).

ولا يعني ذلك أن (المروءة) لا وزن لها عند هؤلاء، وإنما منزلتها رفيعة، وقد مشى العلماء على ضرورة إقامتها ومراعاتها، وإليك شذرات من أقوالهم وأحوالهم:

قال الإمام مالك: (لا خير في شيء من الدنيا – وإن كثر – بفساد دين الرجل أو مروءته)، وقال: (نقاء الثوب وحسن الهمة وإظهار المروءة جزء من بضع وأربعين جزء من النبوة).

وها هو الإمام الشافعي –رحمه الله- يوصي ابنه أبا عثمان، ويقول له:

(والله لو أعلم أن الماء البارد يثلم مروءتي ما شربت إلا حاراً).

وفي رواية:

(والله - الذي لا إله إلا هو -؛ لو علمت أن شرب الماء البارد ينقص من مروءتي ما شربته، ولو كنت اليوم ممن يقول الشعر؛ لرثيت المروءة).

وها هو أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي يطلب منه من جالسه أربع سنين أن يعظ أو يزبر أباه لما كان يتعاطاه؛ فيقول: أنا لا أفسد مروءتي بصلاحه).

ونظرة سريعة في كتب التراجم، مثل (السير) وغيره ترى أن مئات –بل ألوفاً- منهم قد وصفوا بـ (المروءة) و (كمال المروءة) ونحو ذلك. (١)


(١) ((المروءة وخوارمها)) (٢٤٥ - ٢٤٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>